الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 176 ] وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين

                          نزلت هذه الآية في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - من سياق الحكم والأحكام المتعلقة بغزوة أحد ، ولكن أخرج أبو داود والترمذي وابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن قوله - تعالى - : وما كان لنبي أن يغل قد نزل في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها ، وقد ضعف هذه الرواية بعض المفسرين - وإن حسنها الترمذي - لأن السياق كله في وقعة أحد ، ورجحوا عليها ما روي عن الكلبي ومقاتل من أن الرماة قالوا حين تركوا المركز الذي وضعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه : نخشى أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من أخذ شيئا فهو له " وألا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أظننتم أننا نغل ولا نقسم لكم ؟ ولهذا نزلت الآية . وروى ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير مرسلا عن الضحاك قال : " بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلائع فغنم - صلى الله عليه وسلم - غنيمة ، فقسم بين الناس ولم يقسم للطلائع ، فلما قدمت الطلائع قالوا : قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقسم لنا ، فأنزل الله - تعالى - الآية " .

                          قال الأستاذ الإمام : الصواب أن هذه الآية من متعلقات هذه الوقعة كالآيات التي قبلها وكثير مما يأتي بعدها .

                          وأصل الغل : الأخذ بخفية كالسرقة ، وغلب في السرقة من الغنيمة قبل القسمة ، وتسمى غلولا . قال الرماني وغيره : أصل الغلول من الغلل وهو دخول الماء في خلل الشجر ، وسميت الخيانة غلولا لأنها تجري في الملك على خفاء من غير الوجه الذي يحل ، ومن ذلك [ ص: 177 ] الغل : للحقد ، والغليل : لحرارة العطش ، والغلالة : للشعار . أقول : وتغلغل في الشيء دخل فيه واختفى في باطنه . والمعنى : ما كان من شأن نبي من الأنبياء ولا من سيرته أن يغل ; لأن الله قد عصم أنبياءه من الغل والغلول فهو لا يقع منهم . وهذا التعبير أحسن من قولهم : ما صح ولا استقام لنبي أن يغل ; أي يخون في المغنم - وقد تقدم بيان ما يفيده هذا التعبير من نفي الشأن الذي هو أبلغ من نفي الفعل - لأنه عبارة عن دعوى بدليل ، كأنه يقول هنا : إن النبي لا يمكن أن يقع منه ذلك ; لأنه ليس من شأن الأنبياء ولا مما يقع منهم أو يجوز عليهم . وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب : " أن يغل " بالبناء للمفعول وهو من أغللته بمعنى وجدته غالا ; أي ما كان من شأن النبي أن يوجد غالا ، أو بمعنى نسبته إلى الغلول ; أي ما كان لنبي أن يكون متهما بالغلول ، أو من غل ; أي ما كان لنبي أن يكون بحيث يسرق من غنيمته السارقون ويخونه العاملون ، وهذا أضعف مما قبله .

                          وذهب بعض المفسرين إلى أن الغل أو الغلول المنفي هنا هو إخفاء شيء من الوحي وكتمانه عن الناس لا الخيانة في المغنم ، وإن كان ما يعده عاما في كل غلول أو خاصا بالغنيمة ، فإنه جيء به للمناسبة كما عهد في مناسبات القرآن ، وانتقاله من حكم إلى حكم أو خبر له حكمة . وذكروا أنه نزل ردا على من رغب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يترك النعي على المشركين . قال الأستاذ الإمام : ومن مناسبة كون الغل بمعنى الكتمان وإخفاء بعض التنزيل ما تقدم من أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في الآيات السابقة بمعاتبة من كان معه في أحد وتوبيخهم على ما قصروا ، وذلك مما يصعب تبليغه عادة ; لأنه يشق على المبلغ والمبلغ ، ومن أمره - صلى الله عليه وسلم - بالعفو عنهم والاستغفار لهم ومشاورتهم في الأمر على ما كان منهم ، وفي هذا إعلاء لشأنهم ومعاملة لهم بالمساواة في مثل هذه الشئون ، وذلك مما عهد البشر أن يشق على الرئيس منهم إبلاغه للمرءوسين ويزاد على ما ذكره الأستاذ الإمام ما تقدم في هذا السياق من قوله - تعالى - له : ليس لك من الأمر شيء [ 3 : 128 ] عندما لعن أبا سفيان ومن كان معه من رءوس المشركين . كأنه - تعالى - يقول إعلاما للناس بما يجب للأنبياء - عليهم السلام - في أمر التبليغ : ما كان من شأن نبي من الأنبياء أن يكتم شيئا مما أمر بتبليغه وإن كان مما يشق على الناس في حكم العادة ذكره وتبليغه .

                          ثم قال : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة أي إن كل من يقع منه غل أو غلول فإنه يأتي بما غل به يوم القيامة . وذهب الجمهور إلى أن المراد بالإتيان بما يغل به الغال أنه يجيء يوم القيامة حاملا له ليفتضح به ، ويكون مزيدا في عذابه هنالك ، وقد جاء في ذلك [ ص: 178 ] روايات مختلفة : منها أنه يكلف الإتيان به من النار لا أنه يجيء به ، ومن هذه الروايات ما لا يصح ، ولكن أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال : " قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبا فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ، ثم قال : ألا لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول له : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك قال بعض العلماء : لا مانع من إمضاء هذا الإتيان على ظاهره ، وإن غل الإنسان بالعدد الكثير من الإبل والغنم والبقر والخيل والبغال والحمير والأشياء الصامتة فإنها تكون يوم القيامة على رقبته مهما كثرت . وروى ابن أبي حاتم أن رجلا استشكل على أبي هريرة حديثه ذاك فقال : أرأيت من يغل مائة بعير أو مائتي بعير كيف يصنع بها ؟ فأجاب أبو هريرة فذكر له ما معناه : إن من كان ضرسه مثل جبل أحد فإنه يحمل مثل هذا . وهذا الحديث لا يصح ، وجعل بعض العلماء حديث حمل ما يغل به الغال على رقبته من باب التمثيل ، شبهت حال الغال بما يرهقه من أثقال ذنبه وفضيحته به مع فقد المعين والمغيث بمن يحمل ذلك عينه على عاتقه ، ويقصد أرجى الناس لإغاثته فيخذله ويتنصل من إغاثته ، ومازال الناس يشبهون الأثقال المعنوية بالأثقال الحسية ويعبرون عنها بالحمل ، يقولون فلان حامل أثقال أهله أو أثقال البلد ، وفي التنزيل اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون [ 29 : 12 ، 13 ] ومثله قوله - تعالى - : ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ 35 : 18 ] على أن حديث الشيخين لم يذكر فيه أنه تفسير للآية .

                          وقال الأستاذ الإمام : فسروا الإتيان بما غل به الغال بأنه يحمله ، وكأنهم جعلوا الباء للمصاحبة وليس بمتعين . وقد عدل عنه بعض المفسرين كأبي مسلم الأصفهاني وقال : إنه على حد قوله - تعالى - حكاية عن لقمان : يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير [ 31 : 16 ] فليس معنى يأت بها الله أنه يحملها ، ولكن معناه أنه يعلم بها أتم العلم لا تخفى عليه مهما كانت مستترة ; لأن من يأتي بالشيء لا بد أن يكون عالما به ، والمعنى أن الإتيان بالشيء الذي يغله الغال هو عبارة - أو قال كناية - عن انكشافه وظهوره ; أي إن كل غلول [ ص: 179 ] وخيانة خفية يعلمه الله - تعالى - مهما خفي ، ويظهره يوم القيامة للغال حتى يعرفه كمعرفة من أتى بالشيء لذلك الشيء على حد قوله - تعالى - : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 : 7 ، 8 ] .

                          أقول : ولما كان الجزاء يترتب على علم الله بالأعمال وإعلامه العاملين بها يوم الحساب .

                          قال بعدما مر : ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون أي ثم إنه بعد أن يأتي الغال بما غل ، كما يأتي كل عامل بما يعمل ، فيتمثل لديه كأنه حاضر بين يديه ينظر إليه بعينيه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا [ 3 : 30 ] ومثقال الذرة من الخير والشر مرئيا مبصرا ، بعد هذا تنال جزاء ما كسبت مستوفى تاما لا تنقص منه شيئا ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [ 18 : 49 ] .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية