الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الثالث : الشرط

ويتعلق به قواعد :

القاعدة الأولى : المجازاة إنما تنعقد بين جملتين : أولاهما فعلية ، لتلائم الشرط ، مثل قوله - تعالى - : ومن يعمل من الصالحات ( طه : 112 ) ، فمن يرد الله أن يهديه ( الأنعام : 125 ) ، إن كنت جئت بآية ( الأعراف : 106 ) ، استقر مكانه ( الأعراف : 143 ) ، نرينك بعض الذي نعدهم ( الرعد : 40 ) ، يأتينكم مني هدى ( البقرة : 38 ) .

وثانيهما : قد تكون اسمية ، وقد تكون فعلية جازمة ، وغير جازمة ، أو ظرفية ، أو شرطية ، كما يقال : فأولئك يدخلون الجنة ( مريم : 60 ) ، شرح الله صدره للإسلام ( الزمر : 22 ) ، فأت بآية ( الشعراء : 154 ) ، فسوف تراني ( الأعراف : 143 ) ، إلينا مرجعهم ( يونس : 70 ) ، فمن تبع هداي ( البقرة : 38 ) .

[ ص: 454 ] فإذا جمع بينهما ، وبين الشرط اتحدتا جملة واحدة ، نحو قوله : ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ( النساء : 124 ) ، وقوله - سبحانه - : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ( الأنعام : 125 ) ، وقوله : إن كنت جئت بآية فأت بها ( الأعراف : 106 ) وقوله : فإن استقر مكانه فسوف تراني ( الأعراف : 143 ) ، وقوله : وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ( يونس : 46 ) وقوله : فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ( طه : 123 ) فالأولى من جملة المجازاة تسمى شرطا ، والثانية تسمى جزاء .

ويسمي المناطقة الأول مقدما والثاني تاليا . فإذا انحل الرباط الواصل بين طرفي المجازاة عاد الكلام جملتين كما كان . فإن قيل : فمن أي أنواع الكلام تكون هذه الجملة المنتظمة من الجملتين . قلنا : قال صاحب المستوفى : العبرة في هذا بالتالي ؛ إن كان التالي قبل الانتظام جازما كانت هذه الشرطية جازمة - أعني خبرا محضا - ولذلك جاز أن توصل بها الموصولات ؛ كما في قوله - تعالى - : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ( الحج : 41 ) .

وإن لم يكن جازما لم تكن جازمة ، بل إن كان التالي أمرا ، فهي في عداد الأمر ، كقوله - تعالى - : إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ( الأعراف : 106 ) وإن كانت رجاء فهي في عداد الرجاء ، كقوله - تعالى - : فإن استقر مكانه فسوف تراني ( الأعراف : 143 ) أي فهذا التسويف بالنسبة إلى المخاطب . فإن جعلت " سوف " بمعنى أمكن كان الكلام خبرا صرفا .

فأما الفاء التي تلحق التالي معقبة فللاحتياج إليها حيث لا يمكن أن يرتبط التالي بذاته [ ص: 455 ] ارتباطا ؛ وذلك إن كان افتتح بغير الفعل ، كقوله : فأينما تولوا فثم وجه الله ( البقرة : 115 ) وقوله - سبحانه - : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ( الأنعام : 160 ) لأن الاسم لا يدل على الزمان فيجازى به .

وكذلك الحرف إن كان مفتتحا بالأمر ، كقوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ( الحجرات : 6 ) لأن الأمر لا يناسب معناه الشرط ، فإن كان مفتتحا بفعل ماض أو مستقبل ارتبط بذاته ، نحو قولك : إن جئتني أكرمتك ، ونحو قوله - تعالى - : إن تنصروا الله ينصركم ( محمد : 7 ) وكذا قوله : وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ( الأنعام : 70 ) لأن هذه كالجزء من الفعل ، وتخطاها العامل ، وليست كـ " إن " في قوله - تعالى - : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا ( الكهف : 57 ) .

فإن قيل : فما الوجه في قوله - تعالى - : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ( التحريم : 4 ) وقوله : ومن عاد فينتقم الله منه ( المائدة : 95 ) قلنا : الأظهر أن يكون كل واحد منهما محمولا على الاسم ، كما أن التقدير : " فأنتما قد صغت قلوبكما " و " فهو ينتقم الله منه " يدلك على هذا أن " صغت " لو جعل نفسه الجزاء للزم أن يكتسب من الشرط معنى الاستقبال ، وهذا غير مسوغ هنا ، ولو جاز لجاز أن تقول : أنتما إن تتوبا إلى الله صغت - أو - فصغت قلوبكما . لكن المعنى : إن تتوبا فبعد صغو من قلوبكما ، ليتصور فيه معنى الاستقبال ، مع بقاء دلالة الفعل على الممكن ، وأن " ينتقم " لو جعل وحده جزاء لم يدل على تكرار الفعل كما هو الآن ، والله أعلم بما أراد .

[ ص: 456 ] الثانية : أصل الشرط والجزاء أن يتوقف الثاني على الأول ، بمعنى أن الشرط إنما يستحق جوابه بوقوعه هو في نفسه ، كقولك : إن زرتني أحسنت إليك ، فالإحسان إنما استحق بالزيارة ، وقولك : إن شكرتني زرتك ، فالزيارة إنما استحقت بالشكر هذا هو القاعدة .

وقد أورد على هذا آيات كريمات :

ومنها قوله - تعالى - : إن تعذبهم فإنهم عبادك ( المائدة : 118 ) وهم عباده عذبهم أو رحمهم ، وقوله : وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( المائدة : 118 ) وهو العزيز الحكيم ، غفر لهم ، أو لم يغفر لهم .

وقوله : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ( التحريم : 4 ) وصغو القلوب هنا لأمر قد وقع ، فليس بمتوقف على ثبوته .

والجواب أن هذه في الحقيقة ليست أجوبة ، وإنما جاءت عن الأجوبة المحذوفة لكونها أسبابا لها .

فقوله : فإنهم عبادك ( المائدة : 118 ) الجواب في الحقيقة فتحكم فيمن يحق لك التحكم فيه ، وذكر العبودية التي هي سبب القدرة .

وقوله : وإن تغفر ( المائدة : 118 ) فالجواب فأنت متفضل عليهم ، بألا تجازيهم بذنوبهم ، فكمالك غير مفتقر إلى شيء ، فإنك أنت العزيز الحكيم .

وقال صاحب المستوفى : اعلم أن المجازاة لا يجب فيها أن يكون الجزاء موقوفا على الشرط أبدا ، ولا أن يكون الشرط موقوفا على الجزاء أبدا ، بحيث يمكن وجوده ، ولا أن تكون نسبة الشرط دائما إلى الجزاء نسبة السبب إلى المسبب ، بل الواجب فيها أن يكون الشرط بحيث إذا فرض حاصلا لزم مع حصوله حصول الجزاء ؛ سواء كان الجزاء قد يقع ، لا من جهة وقوع الشرط ، كقول الطبيب : من استحم بالماء البارد احتقنت الحرارة باطن جسده ؛ لأن احتقان الحرارة قد يكون لا عن ذلك ، أو لم يكن كذلك ؛ كقولك : إن كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا .

[ ص: 457 ] وسواء كان الشرط ممكنا في نفسه كالأمثلة السابقة ، أو مستحيلا كما في قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ( الزخرف : 81 ) . وسواء كان الشرط سببا في الجزاء ووصلة إليه ، كقوله - تعالى - : وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ( محمد : 36 ) أو كان الأمر بالعكس ، كقوله : ما أصابك من حسنة فمن الله ( النساء : 79 ) أو كان لا هذا ولا ذاك ، فلا يقع إلا مجرد الدلالة على اقتران أحدهما بالآخر ، كقوله - تعالى - : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا ( الكهف : 57 ) إذ لا يجوز أن تكون الدعوة سببا للضلال ومفضية إليه ، ولا أن يكون الضلال مفضيا إلى الدعوة .

وقد يمكن أن يحمل على هذا قوله - تعالى - : إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ( الممتحنة : 2 ) وعلى هذا ما يكون من باب قوله - تعالى - : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ( آل عمران : 140 ) فإن التأويل : إن يمسسكم قرح فمع اعتبار قرح قد مسهم قبل . والله أعلم بمراده .

الثالثة : أنه لا يتعلق إلا بمستقبل ؛ فإن كان ماضي اللفظ كان مستقبل المعنى ، كقولك : إن مت على الإسلام دخلت الجنة ، ثم للنحاة فيه تقديران :

أحدهما : أن الفعل يغير لفظا لا معنى ، فكان الأصل : إن تمت مسلما تدخل الجنة ، فغير لفظ المضارع إلى الماضي ، تنزيلا له منزلة المحقق .

والثاني : أنه تغير معنى ، وإن حرف الشرط لما دخل عليه قلب معناه إلى الاستقبال ، وبقي لفظه على حاله .

والأول أسهل ، لأن تغيير اللفظ أسهل من تغيير المعنى .

وذهب المبرد إلى أن فعل الشرط إذا كان لفظ " كان " بقي على حاله من المضي ؛ لأن كان جردت عنده للدلالة على الزمن الماضي فلم تغيرها أدوات الشرط . وقال : إن " كان " مخالفة في هذا الحكم لسائر الأفعال ، وجعل منه قوله - تعالى - : إن كنت قلته ( المائدة : 116 ) ، وإن كان قميصه ( يوسف : 27 ) .

[ ص: 458 ] والجمهور على المنع ، وتأولوا ذلك ، ثم اختلفوا :

فقال ابن عصفور والشلوبيني وغيرهما : إن حرف الشرط دخل على فعل مستقبل محذوف ، أي " إن " أكن كنت قلته ، أي إن أكن فيما يستقبل موصوفا بأني كنت قلته فقد علمته ، ففعل الشرط محذوف مع هذا ، وليست كان المذكورة بعدها هي فعل الشرط .

قال ابن الضائع : وهذا تكلف لا يحتاج إليه ، بل ( كنت ) بعد ( إن ) مقلوبة المعنى إلى الاستقبال ، ومعنى ( إن كنت ) إن أكن ، فهذه التي بعدها هي التي يراد بها الاستقبال ، لا أخرى محذوفة ، وأبطلوا مذهب المبرد بأن " كان " بعد أداة الشرط في غير هذا الموضع قد جاءت مرادا بها الاستقبال ، كقوله - تعالى - : وإن كنتم جنبا فاطهروا ( المائدة : 6 ) .

وقد نبه في التسهيل في باب الجوازم على أن فعل الشرط لا يكون إلا مستقبل المعنى ، واختار في كان مذهب الجمهور ، إذ قال : ولا يكون الشرط غير مستقبل المعنى بلفظ " كان " أو غيرها إلا مؤولا .

واستدرك عليه " لو " و " لما " الشرطيتين ، فإن الفعل بعدهما لا يكون إلا ماضيا ، فتعين استثناؤه من قوله : لا يكون إلا مستقبل المعنى .

وأما قوله - تعالى - : إنا أحللنا لك أزواجك ( الأحزاب : 50 ) إلى إن وهبت فوقع فيها " أحللنا " المنطوق به أو المقدر ، على القولين ، جواب الشرط مع كون الإحلال قديما ، فهو ماض . وجوابه أن المراد : إن وهبت فقد حلت [ ص: 459 ] فجواب الشرط حقيقة الحل المفهوم من الإحلال لا الإحلال نفسه ، وهذا كما أن الظرف من قولك : قم غدا ، ليس هو لفعل الأمر ، بل للقيام المفهوم منه .

وقال البيانيون : يجيء فعل الشرط ماضي اللفظ لأسباب :

منها ؛ إيهام جعل غير الحاصل كالحاصل ، كقوله - تعالى - : وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا ( الإنسان : 20 ) .

ومنها إظهار الرغبة من المتكلم في وقوعه ، كقولهم : إن ظفرت بحسن العاقبة فذاك ، وعليه قوله - تعالى - : إن أردن تحصنا ( النور : 33 ) أي امتناعا من الزنا جيء بلفظ الماضي ، ولم يقل يردن إظهارا ، لتوفير رضا الله ورغبة في إرادتهن التحصين .

ومنها التعريض ، بأن يخاطب واحدا ومراده غيره ، كقوله - تعالى - : لئن أشركت ليحبطن عملك ( الزمر : 65 ) .

الرابعة : جواب الشرط أصله الفعل المستقبل ، وقد يقع ماضيا لا على أنه جواب في الحقيقة ، نحو : إن أكرمتك فقد أكرمتني اكتفاء بالموجود عن المعدوم .

ومثله قوله - تعالى - : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ( آل عمران : 140 ) ومس القرح قد وقع بهم ، والمعنى : إن يؤلمكم ما نزل بكم فيؤلمهم ما وقع ، فالمقصود ذكر الألم الواقع لجميعهم فوقع الشرط ، والجزاء على الألم .

وأما قوله - تعالى - : إن كنت قلته فقد علمته ( المائدة : 116 ) فعلى وقوع الماضي موقع المستقبل فيهما ، دليله قوله - تعالى - : ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق أي : إن كنت قلته ( المائدة : 116 ) تكن قد علمته ، وهو عدول إلى الجواب إلى ما هو أبدع منه كما سبق .

وأما قوله - تعالى - : وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ( يوسف : 17 ) فالمعنى [ ص: 460 ] - والله أعلم - ما أنت بمصدق لنا ، ولو ظهرت لك براءتنا ، بتفضيلك إياه علينا ، وقد أتوه بدلائل كاذبة ولم يصدقهم ، وقرعوه بقولهم : إنك لفي ضلالك القديم ( يوسف : 95 ) ، وإجماعهم على إرادة قتله ، ثم رميهم له في الجب أكبر من قولهم : ولو كنا صادقين ( يوسف : 17 ) ، عندك .

الخامسة : أدوات الشرط حروف ، وهي " إن " وأسماء مضمنة معناها ، ثم منها ما ليس بظرف كـ : من ، وما ، وأي ، ومهما ، وأسماء هي ظروف : أين ، وأينما ، ومتى ، وحيثما ، وإذما .

وأقواها دلالة على الشرط دلالة " إن " لبساطتها ، ولهذا كانت أم الباب .

وما سواها فمركب من معنى " إن " وزيادة معه ، فمن معناه كل في حكم " إن " ، " وما " معناه كل شيء " إن " ، و " أينما " ، و " حيثما " يدلان على المكان وعلى " إن " ، و " إذما " ، و " متى " ، يدلان على الشرط والزمان .

وقد تدخل " ما " على " إن " وهي أبلغ في الشرط من " إن " ، ولذلك تلتقي بالنون المبني عليها المضارع ، نحو : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم ( الأنفال : 58 ) وقوله - تعالى - : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ( الإسراء : 23 ) .

ومما ضمن معنى الشرط " إذا " ، وهي كـ " إن " ، ويفترقان في أن " إن " تستعمل في المحتمل المشكوك فيه ، ولهذا يقبح : إن احمر البسر كان كذا ، وإن انتصف النهار آتك ، وتكون " إذا " للجزم ، فوقوعه إما تحقيقا ، نحو : إذا طلعت الشمس كان كذا ، أو اعتبارا كما سنذكره .

قال ابن الضائع : ولذلك إذا قيل : إذا احمر البسر فأنت طالق ، وقع الطلاق في الحال عند مالك ؛ لأنه شيء لا بد منه : وإنما يتوقف على السبب الذي قد يكون وقد لا يكون ، وهذا هو الأصل فيهما .

وقد تستعمل إن في مقام الجزم لأسباب :

[ ص: 461 ] 1 - منها أن تأتي على طريقة وضع الشرطي المتصل الذي يوضع شرطه تقديرا لتبيين مشروطه تحقيقا ، كقوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد ( الزخرف : 81 ) ، وقوله - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله ( الأنبياء : 22 ) ، وقوله - تعالى - : قل لو كان معه آلهة ( الإسراء : 42 ) .

2 - ومنها أن تأتي على طريق تبيين الحال ، على وجه يأنس به المخاطب ، وإظهارا للتناصف في الكلام ، كقوله - تعالى - : قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي ( سبأ : 50 ) .

3 - ومنها تصوير أن المقام لا يصلح إلا بمجرد فرض الشرط ، كفرض الشيء المستحيل ، كقوله - تعالى - : ولو سمعوا ما استجابوا لكم ( فاطر : 14 ) والضمير للأصنام ، ويحتمل منه ما سبق في قوله - تعالى - : إن كان للرحمن ولد ( الزخرف : 81 ) .

4 - ومنها لقصد التوبيخ والتجهيل في ارتكاب مدلول الشرط ، وأنه واجب الانتفاء ، حقيق ألا يكون ، كقوله - تعالى - : ( أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين ) ( الزخرف : 5 ) فيمن قرأ بكسر " إن " ، فاستعملت " إن " في مقام الجزم ، بكونهم " مسرفين " لتصور أن الإسراف ينبغي أن يكون منتفيا ، فأجراه لذلك مجرى المحتمل المشكوك .

5 - ومنها تنبيه المخاطب وتهييجه ، كقوله - تعالى - : كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ( البقرة : 172 ) والمعنى عبادتكم لله تستلزم شكركم له ، فإن كنتم ملتزمين عبادته فكلوا من رزقه واشكروه ، وهذا كثيرا ما يورد في الحجاج والإلزام ، تقول : إن كان لقاء الله حقا فاستعد له . وكذا قوله - تعالى - : إن كنتم بآياته مؤمنين ( الأنعام : 118 ) .

[ ص: 462 ] 6 - ومنها التغليب ، كقوله - تعالى - : إن كنتم في ريب من البعث ( الحج : 5 ) ، وقوله - تعالى - : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ( البقرة : 23 ) فاستعمل . " إن " مع تحقق الارتياب منهم ؛ لأن الكل لم يكونوا مرتابين ، فغلب غير المرتابين منهم على المرتابين ؛ لأن صدور الارتياب من غير الارتياب مشكوك في كونه ، فلذلك استعمل " إن " على حد قوله : إن عدنا في ملتكم ( الأعراف : 89 ) .

واعلم أن " إن " لأجل أنها لا تستعمل إلا في المعاني المحتملة كان جوابها معلقا على ما يحتمل أن يكون وألا يكون ، فيختار فيه أن يكون بلفظ المضارع المحتمل للوقوع وعدمه ، ليطابق اللفظ والمعنى ، فإن عدل عن المضارع إلى الماضي لم يعدل إلا لنكتة ، كقوله - تعالى - : إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ( الممتحنة : 2 ) فأتى الجواب مضارعا ، وهو " يكونوا " وما عطف عليه ، وهو " يبسطوا " مضارعا أيضا ، وأنه قد عطف عليه " ودوا " بلفظ الماضي ، وكان قياسه المضارع ؛ لأن المعطوف على الجواب جواب ، ولكنه لما لم يحتمل ودادتهم لكفرهم من الشك فيها ما يحتمله أنهم إذا ثقفوهم صاروا لهم أعداء ، وبسطوا أيديهم إليهم بالقتل وألسنتهم بالشتم أتى فيه بلفظ الماضي ؛ لأن ودادتهم في ذلك مقطوع بها وكونهم أعداء وباسطي الأيدي والألسن بالسوء مشكوك لاحتمال أن يعرض ما يصدهم عنه ، فلم يتحقق وقوعه .

وأما إذا فلما كانت في المعاني المحققة غلب لفظ الماضي معها لكونه أدل [ ص: 463 ] على الوقوع باعتبار لفظه في المضارع ، قال - تعالى - : فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ( الأعراف : 131 ) بلفظ الماضي مع " إذا " في جواب الحسنة حيث أريد مطلق الحسنة ، لا نوع منها ، ولهذا عرفت تعريف العهد ، ولم تنكر كما نكر المراد به نوع منها في قوله - تعالى - : وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله ( النساء : 78 ) وكما نكر الفعل حيث أريد به نوع في قوله - تعالى - : ولئن أصابكم فضل من الله ( النساء : 73 ) وبلفظ المضارع مع " إن " في جانب السيئة ، وتنكيرها بقصد النوع .

وقال - تعالى - : وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ( الروم : 36 ) لفظ الماضي مع " إذا " والمضارع مع " أن " إلا أنه نكرت الرحمة ليطابق معنى الإذاقة بقصد نوع منها ، والسيئة بقصد النوع أيضا .

ومن ذلك قوله - تعالى - : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ( الإسراء : 67 ) أتى بإذا لما كان مس الضر لهم في البحر محققا ، بخلاف قوله - تعالى - : لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط ( فصلت : 49 ) فإنه لم يقيد مس الشر هاهنا ، بل أطلقه .

وكذلك قوله - تعالى - : وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا ( الإسراء : 83 ) فإن اليأس إنما حصل عند تحقق مس الضر له ، فكان الإتيان بإذا أدل على المقصود من أن بخلاف قوله - تعالى - : وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ( فصلت : 51 ) فإنه لقلة صبره وضعف احتماله في موقع الشر أعرض ، والحال في الدعاء ، فإذا تحقق وقوعه كان يؤوسا ، وأما قوله : إن امرؤ هلك ( النساء : 176 ) مع أن الهلاك محقق ، لكن جهل وقته ، فلذلك جيء " بإن " . ومثله قوله - تعالى - : [ ص: 464 ] أفإن مات أو قتل ( آل عمران : 144 ) فأتى بإن المقتضية للشك ، والموت أمر محقق ، ولكن وقته غير معلوم فأورد مورد المشكوك فيه ، المتردد بين الموت والقتل .

وأما قوله - تعالى - : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ( الفتح : 27 ) مع أن مشيئة الله محققة ، فجاء على تعليم الناس كيف يقولون ، وهم يقولون في كل شيء على جهة الاتباع ، لقوله - تعالى - : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ( الكهف : 23 ، 24 ) ، فيقول الرجل في كل شيء إن شاء الله ؛ على مخبر به مقطوعا أو غير مقطوع ، وذلك سنة متبعة .

ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - : وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويحتمل أن تكون للإبهام في وقت اللحوق متى يكون .

تنبيه : سكت البيانيون عما عدا " إذا " و " إن " وألحق صاحب " البسيط " وابن الحاجب " متى " بإن ، قال : لا تقول : متى طلعت الشمس ؟ مما علم أنه كائن ؛ بل تقول : متى تخرج أخرج . وقال الزمخشري في الفصل بين [ ص: 465 ] " متى " و " إذ " : إن متى للوقت المهم ، وإذا للمعين ؛ لأنهما ظرفا زمان ، ولإبهام متى جزم بها دون إذا .

السادسة : قد يعلق الشرط بفعل محال يستلزمه محال آخر ، وتصدق الشرطية دون مفرديها ؛ أما صدقها فلاستلزام المحال ، وأما كذب مفرديها فلاستحالتهما .

وعليه قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ( الزخرف : 81 ) .

وقوله - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( الأنبياء : 22 ) .

وقوله - تعالى - : قل لو كان معه آلهة كما يقولون ( الإسراء : 42 ) الآية .

وفائدة الربط بالشرط في مثل هذا أمران : أحدهما بيان استلزام إحدى القضيتين للأخرى ، والثاني أن اللازم منتف ، فالملزوم كذلك .

وقد تبين بهذا أن الشرط يعلق به المحقق الثبوت ، والممتنع الثبوت ، والممكن الثبوت .

السابعة : الاستفهام إذا دخل على الشرط كقوله - تعالى - أفإن مات أو قتل انقلبتم ( آل عمران : 144 ) وقوله - تعالى - : أفإن مت فهم الخالدون ( الأنبياء : 34 ) ونظائره : فالهمزة في موضعها ، ودخولها على أداة الشرط . والفعل الثاني الذي هو جزاء الشرط ليس جزاء للشرط ، وإنما هو المستفهم عنه ، والهمزة داخلة عليه تقديرا ، فينوى به التقديم ، وحينئذ فلا يكون جوابا ، بل الجواب محذوف ، والتقدير عنده : أأنقلبتم على أعقابكم أن مات محمد ؟ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته .

[ ص: 466 ] ويقول يونس : قال كثير من النحويين : إنهم يقولون ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ؛ لأن الغرض إنما هو : أتنقلبون إن مات محمد .

وقال أبو البقاء : قال يونس : الهمزة في مثل هذا حقها أن تدخل على جواب الشرط ، تقديره : أتنقلبون إن مات محمد ، لأن الغرض التنبيه أو التوبيخ على هذا الفعل المشروط ، ومذهب سيبويه الحق لوجهين : أحدهما : أنك لو قدمت الجواب لم يكن للفاء وجه ؛ إذ لا يصح أن تقول : أتزورني فإن زرتك ، ومنه قوله : أفإن مت فهم الخالدون ( الأنبياء : 34 ) والثاني : أن الهمزة لها صدر الكلام ، وإن لها صدر الكلام وقد وقعا في موضعهما ، والمعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجواب ؛ لأنهما كالشيء الواحد . انتهى .

وقد رد النحويون على يونس بقوله : أفإن مت فهم الخالدون ( الأنبياء : 34 ) لا يجوز في ( فهم ) أن ينوى به التقديم ؛ لأنه يصير التقدير : أفهم [ ص: 467 ] الخالدون فإن مت ؟ وذلك لا يجوز ، لئلا يبقى الشرط بلا جواب ؛ إذ لا يتصور أن يكون الجواب محذوفا يدل عليه ما قبله ؛ لأن الفاء المتصلة بإن تمنعه من ذلك ؛ ولهذا يقولون : أنت ظالم إن فعلت ، ولا يقولون : أنت ظالم فإن فعلت ، فدل ذلك على أن أدوات الاستفهام إنما دخلت لفظا وتقديرا على جملة الشرط والجواب .

الثامنة : إذا تقدم أداة الشرط جملة تصلح أن تكون جزاء ، ثم ذكر فعل الشرط ولم يذكر له جواب ، نحو : أقوم إن قمت ، وأنت طالق إن دخلت الدار ؛ فلا تقدير عند الكوفيين ، بل المقدم هو الجواب ، وعند البصريين ، دليل الجواب .

والصحيح هو الأول ؛ لأن الفاء لا تدخل عليه ، ولو كان جوابا لدخلت ؛ ولأنه لو كان مقدما من تأخير لما افترق المعنيان ، وهما مفترقان ، ففي التقدم بني الكلام على الخبر ثم طرأ التوقف ، وفي التأخير بني الكلام من أوله على الشرط ؛ كذا قاله ابن السراج ، وتابعه ابن مالك ، وغيره .

ونوزعا في ذلك ؛ بل مع التقديم الكلام مبني على الشرط ، كما لو قال : له علي عشرة إلا درهما ، فإنه لم يقر بالعشرة ، ثم أنكر منها درهما ، ولو كان كذلك لم ينفعه الاستثناء ، ثم زعم ابن السراج أن ذلك لا يقع إلا في الضرورة ، وهو مردود بوقوعه في القرآن كقوله : واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ( البقرة : 172 ) . وقوله : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ( الأنعام : 118 ) ، وقوله : بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ( آل عمران : 118 ) .

[ ص: 468 ] التاسعة : إذا دخل على أداة الشرط واو الحال لم يحتج إلى جواب ، نحو : أحسن إلى زيد وإن كفرك ، واشكره وإن أساء إليك ؛ أي أحسن إليه كافرا لك ، واشكره مسيئا إليك .

فإن أجيب الشرط كانت الواو عاطفة ؛ لا للحال ، نحو : أحسن إليه ، وإن كفرك ، فلا تدع الإحسان إليه واشكره وإن أساء إليك فأقم على شكره . ولو كانت الواو هنا للحال لم يكن هناك جواب .

قال ابن جني : وإنما كان كذلك ؛ لأن الحال فضلة ، وأصل وضع الفضلة أن تكون مفردا ، كالظرف والمصدر ، والمفعول به ، فلما كان كذلك لم يجب الشرط إذا وقع في موقع الحال ؛ لأنه لو أجيب لصار جملة ؛ والحال إنما هي فضلة ، فالمفرد أولى بها من الجملة ، والشرط وإن كان جملة ، فإنه يجري عندهم مجرى الآحاد من حيث كان محتاجا إلى جوابه احتياج المبتدأ إلى الخبر .

العاشرة : الشرط والجزاء لا بد أن يتغايرا لفظا ، وقد يتحدان فيحتاج إلى التأويل ، كقوله : إلا من تاب وآمن ( الفرقان : 70 ) والآية التي تليها : ومن تاب وعمل صالحا ( الفرقان : 71 ) ثم قال : فإنه يتوب إلى الله متابا ( الفرقان : 71 ) فقيل على حذف الفعل : أي من أراد التوبة ، فإن التوبة معرضة له لا يحول بينه وبينها حائل . ومثله : فإذا قرأت القرآن ( النحل : 98 ) أي أردت ، ويدل لهذا تأكيد التوبة بالمصدر .

وأما قوله - تعالى - : جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ( يوسف : 75 ) فقال الزمخشري : يجوز أن يكون " جزاؤه " مبتدأ ، والجملة الشرطية كما هي [ ص: 469 ] خبره على إقامة الظاهر مقام المضمر ، والأصل : " جزاؤه من وجد في رحله ، فهو هو " فوضع الجزاء موضع هو .

وقوله : من يهد الله فهو المهتدي ( الأعراف : 178 ) قدره ابن عباس : من يرد الله هدايته . فلا يتحد الشرط والجزاء .

ومثله قوله - تعالى - : وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ( المائدة : 67 ) وقد سبق فيها أقوال كثيرة .

وقد يتقاربان في المعنى ، كقوله - تعالى - : ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ( آل عمران : 192 ) وقوله : فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ( آل عمران : 185 ) وقوله : ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ( محمد : 38 ) .

والنكتة في ذلك كله تفخيم الجزاء ، والمعنى : أن الجزاء هو الكامل البالغ النهاية ؛ يعني : من يبخل في أداء ربع العشر ، فقد بالغ في البخل ، وكان هو البخيل في الحقيقة .

الحادية عشرة : في اعتراض الشرط على الشرط ، وقد عدوا من ذلك آيات شريفة ، بعضها مستقيم وبعضها بخلافه .

الآية الأولى قوله - تعالى - : فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم ( الواقعة : الآية 88 ، 89 ) الآية ، قال الفارسي : قد اجتمع هنا شرطان ، وجواب واحد ، فليس يخلو : إما أن يكون جوابا لأما ، أو لإن دون أما ، ولا يجوز أن يكون جوابا لهما ؛ لأنا لم نر شرطين لهما جواب واحد ؛ ولو كان هذا لجاز شرط واحد له جوابان : ولا يجوز أن يكون جوابا ؛ لأن دون " أما " لأن " أما " لم تستعمل بغير جواب ، فجعل جوابا لأما ، فتجعل " أما " وما بعدها جوابا لإن . وتابعه ابن مالك في كون الجواب لأما .

وقد سبقهما إليه إمام الصناعة سيبويه ، ونازع بعض المتأخرين في عد هذه الآية [ ص: 470 ] من هذا ، قال : وليس من الاعتراض أن يقرن الثاني بفاء الجواب لفظا ؛ نحو : إن تكلم زيد ، فإن أجاد فأحسن إليه ؛ لأن الشرط الثاني ، وجوابه جواب الأول . أو يقرن بفاء الجواب تقديرا كهذه الآية الشريفة ؛ لأن الأصل عند النحاة : مهما يكن من شيء ، فإن كان المتوفى من المقربين فجزاؤه روح ، فحذف مهما وجملة شرطها ، وأنيب عنها أما ، فصار أما ، فإن كان مفردا من ذلك لوجهين :

أحدهما : أن الجواب لا يلي أداة الشرط بغير فاصل .

وثانيهما : أن الفاء في الأصل للعطف ؛ فحقها أن تقع بين سببين ، وهما المتعاطفان فلما أخرجوها من باب العطف ، حفظوا عليها المعنى الآخر ، وهو التوسط ، فوجب أن يقدم شيء مما في حيزها عليها إصلاحا للفظ ، فقدمت جملة الشرط الثاني لأنها كالجزاء الواحد ، كما قدم المفعول في قوله - تعالى - : فأما اليتيم فلا تقهر ( الضحى : 9 ) فصار : فأما إن كان من المقربين فروح ( الواقعة : 88 ، 89 ) فحذفت الفاء التي في جواب " إن " لئلا يلتقي فاءان . فتلخص أن جواب أما ليس محذوفا ، بل مقدما بعضه على الفاء ، فلا اعتراض .

الآية الثانية ؛ قوله - تعالى - عن نوح : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ( هود : 34 ) وإنما يكون من هذا لو كان ولا ينفعكم نصحي ( هود : 34 ) مؤخرا بعد الشرطين : أو لازما أن يقدر كذلك ، وكلا الأمرين منتف .

أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأن : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ( هود : 34 ) جملة تامة ، أما على مذهب الكوفيين فمن شرط مؤخر وجزاء مقدم ، وأما على مذهب البصريين فالمقدم دليل الجزاء ، والمدلول عليه محذوف فيقدر بعد شرطه ، فلم يقع الشرط الثاني معترضا ؛ لأن [ ص: 471 ] المراد بالمعترض ما اعترض بين الشرط وجوابه ، وهنا ليس كذلك ؛ فإن على مذهب الكوفيين لا حذف والجواب مقدم ، وعلى قول البصريين الحذف بين الشرطين .

وهنا فائدة ، وهي أنه لما عدل عن " إن نصحت " إلى : إن أردت أن أنصح ؟ وكأنه - والله أعلم - أدب مع الله - تعالى ، حيث أراد الإغواء . وقد أحسن الزمحشري فلم يأت بلفظ الاعتراض في الآية ؛ بل سماه مرادفا ؛ هو صحيح ، وقال : إن قوله - تعالى - : إن كان الله يريد أن يغويكم جزاؤه ما دل عليه قوله : ولا ينفعكم نصحي . وجعل ابن مالك تقدير الآية : إن أردت أنصح لكم مرادا ذلك منكم . لا ينفعكم نصحي ، وهو يجعله من باب الاعتراض ، وفيه ما ذكرنا .

الآية الثالثة ؛ قوله - تعالى - : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ( الأحزاب : 50 ) الآية ، وهي كالتي قبلها ، لتقدم الجزاء أو دليله على الشرطين ، فالاحتمال فيها كما قدمنا . وقال الزمخشري : شرط في الإحلال هبتها نفسها ، وفي الهبة إرادة الاستنكاح ، كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت نفسها لك ، وأنت تريد أن تنكحها ؛ لأن إرادته هي قبول الهبة ، وما به تم .

وحاصله أن الشرط الثاني مقيد للأول . ويحتمل أن يكون من الاعتراض ، كأنه قال : إن وهبت نفسها ، إن أراد النبي ، أحللناها ، فيكون جوابا للأول ، ويقدر جواب الثاني محذوفا .

الآية الرابعة ؛ قوله - تعالى - : ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ( يونس : 84 ) . وغلط من جعلها من الاعتراض ؛ لأن الشرط الأول اقترن بجوابه ، ثم أتى بالثاني بعد ذلك ، وإذا ذكر جواب الثاني تاليا له ، فأي اعتراض هنا ؟ ! لهذا قال المجوزون لهذه المسألة : إن الجواب المذكور للأول ، وجواب الثاني محذوف لدلالة الأول وجوابه عليه ، والتقدير في الآية : إن كنتم مسلمين فإن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ، فحذف الجواب لدلالة السابق عليه .

[ ص: 472 ] الآية الخامسة قوله - تعالى - : وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ( محمد : 36 و 37 ) وكلام ابن مالك يقتضي أنها من الاعتراض ؛ وليس كذلك ، بل عطف فعل الشرط على فعل آخر .

الآية السادسة ؛ قوله - تعالى - : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ( الفتح : 25 ) إلى قوله : ( لعذبنا ) وهذه الآية هي العمدة في هذا الباب ، فالشرطان وهما ( لولا ) و ( لو ) قد اعترضا ، وليس معهما إلا جواب واحد ، وهو متأخر عنهما ، وهو ( لعذبنا ) .

الآية السابعة ؛ قوله - تعالى - : إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية ( البقرة : 180 ) ، وهذه تأتي على مذهب الأخفش ، فإنه يزعم أن قوله - تعالى - : ( الوصية ) على تقدير الفاء ، أي فالوصية ، فعلى هذا يكون مما نحن فيه ، فأما إذا رفعت ( الوصية ) بـ ( كتب ) فهي كالآيات السابقة في حذف الجوابين .

التالي السابق


الخدمات العلمية