الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب .

دل قوله : كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا على كلام محذوف ، أي فكانت مريم ملازمة لخدمة بيت المقدس ، وكانت تتعبد بمكان تتخذه لها محرابا ، وكان زكرياء يتعهد تعبدها فيرى كرامة لها أن عندها ثمارا في غير وقت وجود صنفها .

و " كلما " مركبة من " كل " الذي هو اسم لعموم ما يضاف هو إليه ، ومن " ما " الظرفية وصلتها المقدرة بالمصدر ، والتقدير : كل وقت دخول زكرياء عليها وجد عندها رزقا .

وانتصب " كل " على النيابة عن المفعول فيه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل في سورة البقرة .

فجملة وجد عندها رزقا حال من زكرياء في قوله : وكفلها زكرياء .

[ ص: 237 ] ولك أن تجعل جملة وجد عندها رزقا بدل اشتمال من جملة وكفلها زكرياء .

و المحراب بناء يتخذه أحد ليخلو فيه بتعبده وصلاته ، وأكثر ما يتخذ في علو يرتقى إليه بسلم أو درج ، وهو غير المسجد ، وأطلق على غير ذلك إطلاقات على وجه التشبيه أو التوسع ، كقول عمر بن أبي ربيعة :


دمية عند راهـب قـسـيس صوروها في مذبح المحراب

أراد في مذبح البيعة ، لأن المحراب لا يجعل فيه مذبح . وقد قيل : إن المحراب مشتق من الحرب ؛ لأن المتعبد كأنه يحارب الشيطان فيه ، فكأنهم جعلوا ذلك المكان آلة لمحرب الشيطان .

ثم أطلق المحراب عند المسلمين على موضع كشكل نصف قبة في طول قامة ونصف ، يجعل بموضع القبلة ليقف فيه الإمام للصلاة . وهو إطلاق مولد وأول محراب في الإسلام محراب مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - صنع في خلافة الوليد بن عبد الملك ، مدة إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة . والتعريف في " المحراب " تعريف الجنس ويعلم أن المراد محراب جعلته مريم للتعبد .

و أنى استفهام عن المكان ، أي من أين لك هذا ، فلذلك كان جواب استفهامه قولها من عند الله .

واستفهام زكرياء مريم عن الرزق لأنه في غير إبانه ووقت أمثاله ، قيل : كان عنبا في فصل الشتاء . والرزق تقدم آنفا عند قوله : وترزق من تشاء بغير حساب .

وجملة إن الله يرزق من يشاء من كلام مريم المحكي .

والحساب في قوله : بغير حساب بمعنى الحصر ؛ لأن الحساب يقتضي حصر الشيء المحسوب بحيث لا يزيد ولا ينقص ، فالمعنى إن الله يرزق من يريد رزقه بما لا يعرف مقداره لأنه موكول إلى فضل الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية