الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ويجوز التعبد بالقياس ) في الشرعيات ( عقلا ) عند الأئمة الأربعة وغيرهم ، خلافا للشيعة ، وجماعة من معتزلة بغداد . قال البرماوي : ومنهم من منعه عقلا . فقيل : لأنه قبيح في نفسه فيحرم . وقيل : لأنه يجب على الشارع أن يستنصح لعباده ، وينص لهم على الأحكام كلها ، وهذا على رأي المعتزلة المعلوم فساده . وأوجب التعبد به القاضي وأبو الخطاب والقفال وأبو الحسين البصري . ومعنى التعبد به عقلا : أنه يجوز أن يقول الشارع ، إذا ثبت حكم في صورة ووجد في صورة أخرى مشاركة للصورة الأولى في وصف ، وغلب على ظنكم أن هذا الحكم في الصورة الأولى معلل بذلك الوصف ، فقيسوا الصورة الثانية على الأولى .

استدل للمذهب الأول الصحيح بأنه لا يمتنع عقلا أن يقول الشارع : حرمت الخمر لإسكارها ، فقيسوا [ ص: 535 ] عليها ما في معناها ; لأن هذا يتضمن دفع ضرر مظنون ، وهو واجب عقلا ، فالقياس واجب عقلا ، والوجوب يستلزم الجواز . وقال المخالف : العقل يمنع من وقوع ما فيه خطأ ; لأنه محذور . رد منع احتياطا لا إحالة ، ثم لا منع مع ظن الصواب ، بدليل العموم وخبر الواحد والشهادة ( و ) على القول بالجواز ( وقع شرعا ) عند المعظم من أصحابنا وغيرهم . ومنعه داود وابنه والقاشاني والنهرواني وبعض أصحابنا وجمع ، وهو رواية عن أحمد رحمه الله . وحملها القاضي وابن عقيل على قياس خالف نصا . وابن رجب على من لم يبحث عن الدليل ، أو لم يحصل شروطه ( و ) على الأول ( وقوعه بدليل السمع قطعي ) عند القاضي وأبي الخطاب وابن عقيل ، وعليه الأكثر .

وفي كلامهم أيضا : أنه ظني ( وهو ) أي القياس ( حجة ) عند الأكثر من أصحابنا وغيرهم . وقد احتج القاضي وغيره على العمل بالقياس بقول أحمد رحمه الله : لا يستغني أحد عن القياس ، وقوله في رواية الميموني : سألت الشافعي عنه ، فقال : ضرورة ، وأعجبه ذلك . وذكر ابن حامد عن بعض أصحابنا : أنه ليس بحجة ; لقول أحمد في رواية الميموني : يجتنب المتكلم هذين الأصلين : المجمل ، والقياس وحمله القاضي وابن عقيل على قياس عارضه سنة . قال ابن رجب : فتنازع أصحابنا في معناه .

فقال بعض المتقدمين والمتأخرين : هذا يدل على المنع من استعمال القياس في الأحكام الشرعية بالكلية . وأكثر أصحابنا لم يثبتوا عن أحمد في العمل بالقياس خلافا ، كابن أبي موسى ، والقاضي ، وابن عقيل ، وغيرهم ، وهو الصواب . انتهى . واستدل لكونه حجة - وهو الصحيح - بقوله تعالى { فاعتبروا يا أولي الأبصار } .

والاعتبار : اختبار شيء بغيره وانتقال من شيء إلى غيره والنظر في شيء ليعرف به آخر من جنسه ، فإن قيل : هو الاتعاظ لسياق الآية ، رد بأنه مطلق فإن قيل : الدال على الكلي لا يدل على الجزئي . رد بلى ، ثم مراد الشارع : القياس الشرعي ; لأن خطابه غالبا بالأمر الشرعي . وفي كلام أصحابنا وغيرهم : عام لجواز الاستثناء ، ثم متحقق فيه ; لأن المتعظ بغيره منتقل من العلم بغيره إلى نفسه .

فالمراد قدر مشترك ، وسبق في الأمر ظهور صيغة " افعل " في الطلب واحتج القاضي [ ص: 536 ] وأبو الخطاب وغيرهما بقوله صلى الله عليه وسلم { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران . وإن أخطأ فله أجر } رواه مسلم . واحتج أصحابنا أيضا وغيرهم بإجماع الصحابة . قال بعض أصحابنا والآمدي وغيرهم : هو أقوى الحجج ، فمنه اختلافهم الكثير الشائع المتباين في ميراث الجد مع الإخوة ، وفي الأكدرية والخرقاء ، ولا نص عندهم . إذا تقرر هذا فيكون القياس حجة ( في الأمور الدنيوية ) غير الشرعية اتفاقا ، كمداواة الأمراض والأغذية والأسفار والمتاجر ونحو ذلك ( و ) يكون القياس حجة في ( غيرها ) أي غير الأمور الدنيوية ، من الأمور الشرعية عند الأكثر من القائلين بالقياس للأدلة المتقدمة .

ومنع القاضي أبو بكر الباقلاني ، ومن تبعه كونه حجة في قياس العكس . قال ابن مفلح : فإن قيل : ما حكم قياس العكس ؟ قيل : حجة . ذكره القاضي وغيره من أصحابنا والمالكية ، وهو المشهور عن الشافعية والحنفية ، كالدلالة لطهارة دم السمك بأكله به ; لأنه لو كان نجسا لما أكل به . كالحيوانات النجسة الدم ، ونحو لو سنت السورة في الأخريين لسن الجهر فيهما كالأوليين . وفي مسلم من حديث أبي ذر { في بضع أحدكم صدقة . قالوا : يا رسول الله : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام ، أكان عليه [ فيها ] وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر } ومنع قوم القياس في إثبات أصول العبادات ، فنفوا جواز الصلاة بالإيماء المقيسة على صلاة القاعد بجامع العجز . ومنعه أبو حنيفة وأصحابه في حد وكفارة وبدل ورخص ومقدر . لنا عموم دليل كون القياس حجة ، وقول الصحابي " إذا سكر هذى وإذا هذى افترى " وكبقية الأحكام .

ومنعه جمع في سبب وشرط ومانع ، كجعل الزنا سببا لإيجاب الحد . فلا يقاس عليه اللواط . وصححه الآمدي ، وابن الحاجب . وجزم به البيضاوي ، لكن نقل الآمدي عن أكثر الشافعية جريانه فيها . ومشى عليه في جمع الجوامع ( والنص على علة حكم الأصل يكفي في التعبد ) عند أصحابنا والأكثر . واحتج الإمام أحمد رحمه الله لعدم جواز بيع رطب بيابس { بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر } وقال : [ ص: 537 ] أبو الخطاب والموفق وأكثر الشافعية : إن ورد التعبد بالقياس كفى ، وإلا فلا .

والبصري يكفي في علة التحريم لا غيرها . قال الشيخ تقي الدين : هو قياس مذهبنا وسمى ابن عقيل المنصوص استدلالا . وقال : مذهبنا ليس بقياس . وقاله أيضا بعض الفقهاء ( والحكم المتعدي إلى فرع بعلة منصوصة مراد بالنص ، كعلة مجتهد فيها فرعها مراد بالاجتهاد ) قاله ابن مفلح وغيره ; لأن الأصل مستتبع لفرعه ، خلافا لبعضهم . ذكره أبو الخطاب قال المجد : كلام أبي الخطاب يقتضي أنها مستقلة . قال : وعندي أنها مبنية على المسألة قبلها . قال الشيخ تقي الدين : وذكر القاضي [ ما هو ] أعم من ذلك ، فقال : الحكم بالقياس على أصل منصوص عليه مراد بالنص الذي في الأصل ، خلافا لبعض المتكلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية