الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين

اللام في قوله: "لتجدن"؛ لام الابتداء؛ وقال الزجاج : هي لام قسم؛ ودخلت هذه النون الثقيلة لتفصل بين الحال والاستقبال.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله؛ وهكذا هو الأمر حتى الآن؛ وذلك [ ص: 231 ] أن اليهود مرنوا على تكذيب الأنبياء؛ وقتلهم؛ ودربوا العتو والمعاصي؛ ومردوا على استشعار اللعنة؛ وضرب الذلة والمسكنة؛ فهم قد لحجت عداوتهم؛ وكثر حسدهم؛ فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين؛ وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب؛ والنيران من المجوس؛ لأن الإيمان إياهم كفر؛ وعروشهم ثل؛ وبين أنهم ليسوا على شيء من أول أمرهم؛ فلم يبق لهم بقية؛ فعداوتهم شديدة.

والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح؛ لولا أنهم ضلوا؛ فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا؛ وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم؛ ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين؛ ويستهينون من فهموا منه الفسق؛ فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب؛ لا أن شرعهم يأخذهم بذلك؛ وإذا سالموا فسلمهم صاف؛ ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق؛ لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاص في صحيح مسلم ؛ وتأمل أن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - سر حين غلبت الروم فارس؛ [ ص: 232 ] وذلك لكونهم أهل كتاب؛ ولم يرد - عليه الصلاة والسلام - أن يستمر ظهور الروم؛ وإنما سر بغلبة أهل كتاب لأهل عبادة النار؛ وانضاف إلى ذلك أن غلب العدو الأصغر وانكسرت شوكة العدو الأكبر المخوف على الإسلام.

واليهود - لعنهم الله - ليسوا على شيء من هذا الخلق؛ بل شأنهم الخبث؛ واللي بالألسنة؛ وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يبغيك هو الغوائل إلا الشاذ القليل منهم؛ ممن عسى أن تخصص بأدب وأمور غير ما علم أولا.

ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود؛ وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود؛ والمشركين؛ فهو قرب مودة بالنسبة إلى متباعدين.

وفي قوله تعالى: الذين قالوا إنا نصارى ؛ إشارة إلى أن المعاصرين لمحمد - صلى اللـه عليه وسلم - من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية؛ بل كونهم نصارى قول منهم؛ وزعم.

وقوله تعالى: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ؛ معناه: ذلك بأن منهم أهل خشية؛ وانقطاع إلى الله ؛ وعبادة ؛ وإن لم يكونوا على هدى؛ فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية؛ وليس عند اليهود؛ ولا كان قط؛ أهل ديارات؛ وصوامع؛ وانقطاع عن الدنيا؛ بل هم معظمون لها؛ متطاولون في البنيان؛ وأمور الدنيا؛ حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة؛ فلذلك لا يرى فيهم زاهد.

ويقال: "قس"؛ بفتح القاف؛ وبكسرها؛ و"قسيس"؛ وهو اسم أعجمي عرب؛ و"القس"؛ في كلام العرب: النميمة؛ وليس من هذا.

[ ص: 233 ] وأما الرهبان فجمع "راهب"؛ وهذه تسمية عربية؛ والرهب: الخوف؛ ومن الشواهد على أن الرهبان جمع قول الشاعر:


رهبان مدين لو رأوك تنزلوا ... والعصم من شغف العقول الفادر



وقد قيل: الرهبان اسم مفرد؛ والدليل عليه قول الشاعر:


لو عاينت رهبان دير في القلل ...     تحدر الرهبان يمشي ونزل



قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويروى: "ويزل"؛ بالياء؛ من "الزلل"؛ وهذه الرواية أبلغ في معنى غلبة هذه المرأة على ذهن هذا الراهب. ووصف الله تعالى النصارى بأنهم لا يستكبرون؛ وهذا بين موجود فيهم حتى الآن؛ واليهودي متى وجد غرورا طغى وتكبر؛ وإنما أذلهم الله وأضرعتهم الحمى؛ وداسهم كلكل الشريعة؛ ودين الإسلام أعلاه الله.

وذكر سعيد بن جبير ؛ ومجاهد ؛ وابن عباس أن هذه الآية نزلت بسبب وفد بعثهم النجاشي إلى رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - ليروه ويعرفوا حاله؛ فقرأ النبي - صلى اللـه عليه وسلم - عليهم القرآن فبكوا؛ وآمنوا؛ ورجعوا إلى النجاشي ؛ فآمن؛ ولم يزل مؤمنا حتى مات؛ فصلى عليه النبي - صلى اللـه عليه وسلم.

[ ص: 234 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وروي أن نعش النجاشي كشف للنبي - صلى اللـه عليه وسلم - فكان يراه من موضعه بالمدينة؛ وجاء الخبر بعد مدة أن النجاشي دفن في اليوم الذي صلى فيه النبي - صلى اللـه عليه وسلم - عليه؛ وذكر السدي أنهم كانوا اثني عشر؛ سبعة قسيسين؛ وخمسة رهبان؛ وقال أبو صالح : كانوا سبعة وستين رجلا؛ وقال سعيد بن جبير : كانوا سبعين؛ عليهم ثياب الصوف؛ وكلهم صاحب صومعة؛ اختارهم النجاشي الخير فالخير؛ وذكر السدي أن النجاشي خرج مهاجرا؛ فمات في الطريق.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا ضعيف لم يذكره أحد من العلماء بالسيرة.

وقال قتادة : نزلت هذه الآيات في قوم كانوا مؤمنين؛ ثم آمنوا بمحمد - عليه الصلاة والسلام.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وفرق الطبري بين هذين القولين؛ وهما واحد.

وروى سلمان الفارسي عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم -: "ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا".

وقوله تعالى: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم ؛ الآية؛ الضمير في "سمعوا"؛ ظاهره العموم؛ ومعناه الخصوص فيمن آمن من هؤلاء القادمين من أرض الحبشة؛ إذ هم عرفوا الحق؛ وقالوا: "آمنا"؛ وليس كل النصارى يفعل ذلك؛ وصدر الآية في قرب المودة عام فيهم؛ ولا يتوجه أن يكون صدر الآية خاصا فيمن آمن؛ لأن من آمن فهو من الذين آمنوا؛ وليس يقال فيه: "قالوا: إنا نصارى"؛ ولا يقال في مؤمنين: ذلك بأن منهم [ ص: 235 ] قسيسين ؛ ولا يقال: "إنهم أقرب مودة"؛ بل من آمن فهو أهل مودة محضة؛ فإنما وقع التخصيص من قوله تعالى: وإذا سمعوا ؛ وجاء الضمير عاما؛ إذ قد تحمد الجماعة بفعل واحد منها؛ وفي هذا استدعاء للنصارى؛ ولطف من الله تعالى بهم؛ ولقد يوجد فيض الدموع غالبا فيهم؛ وإن لم يؤمنوا.

وروي أن وفدا من نجران قدم على أبي بكر الصديق في شيء من أمورهم؛ فأمر من يقرأ القرآن بحضرتهم؛ فبكوا بكاء شديدا؛ فقال أبو بكر : هكذا كنا؛ ولكن قست القلوب.

وروي أن راهبا من رهبان ديارات الشام نظر إلى أصحاب النبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ ورأى عبادتهم؛ وجدهم في قتال عدوهم؛ فعجب من حالهم؛ وبكى؛ وقال: "ما كان الذين نشروا بالمناشير على دين عيسى بأصبر من هؤلاء؛ ولا أجد في دينهم".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فالقوم الذين وصفوا بأنهم عرفوا الحق هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي - صلى اللـه عليه وسلم - ويسمعوا ما عنده؛ فلما رأوه قرأ عليهم القرآن؛ وهو المراد بقوله: ما أنزل إلى الرسول ؛ فاضت أعينهم بالدمع؛ من خشية القلوب.

والرؤية رؤية العين؛ و"تفيض"؛ حال من الأعين؛ و"يقولون"؛ حال أيضا؛ و"آمنا"؛ معناه: "صدقنا أن هذا رسولك؛ والمسموع كتابك"؛ والشاهدون: محمد وأمته؛ قاله ابن عباس ؛ وابن جريج ؛ وغيرهما.

[ ص: 236 ] وقال الطبري : لو قال قائل: معنى ذلك: "مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم؛ من تقدم؛ ومن تأخر"؛ لكان ذلك صوابا.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: هذا معنى قول الطبري ؛ وهو كلام صحيح؛ وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - خصص أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - لقوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا ؛ الآية.

التالي السابق


الخدمات العلمية