الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 4543 ) فصل : ويتخير ملتقطها بين ثلاثة أشياء ; أكلها في الحال . وبهذا قال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وغيرهم . قال ابن عبد البر : أجمعوا على أن ضالة الغنم ، في الموضع المخوف عليها ، له أكلها . والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : { هي لك أو لأخيك أو للذئب } . فجعلها له في الحال ، وسوى بينه وبين الذئب ، والذئب لا يستأني بأكلها ، ولأن في أكلها في الحال إغناء عن الإنفاق [ ص: 29 ] عليها ، وحراسة لماليتها على صاحبها إذا جاء .

                                                                                                                                            فإنه يأخذ قيمتها بكمالها من غير نقص ، وفي إبقائها تضييع للمال بالإنفاق عليها ، والغرامة في علفها ، فكان أكلها أولى . ومتى أراد أكلها حفظ صفتها ، فمتى جاء صاحبها غرمها له ، في قول عامة أهل العلم ، إلا مالكا ، فإنه قال : كلها ، ولا غرم عليك لصاحبها ولا تعريف ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " هي لك " . ولم يوجب فيها تعريفا ولا غرما ، وسوى بينه وبين الذئب ، والذئب لا يعرف ولا يغرم . قال ابن عبد البر : لم يوافق مالكا أحد من العلماء على قوله . وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو : { رد على أخيك ضالته }

                                                                                                                                            دليل على أن الشاة على ملك صاحبها ، ولأنها لقطة لها قيمة ، وتتبعها النفس ، فتجب غرامتها لصاحبها إذا جاء كغيرها ، ولأنها ملك لصاحبها ، فلم يجز تملكها عليه بغير عوض من غير رضاه ، كما لو كانت بين البنيان ، ولأنها عين يجب ردها مع بقائها ، فوجب غرمها إذا أتلفها ، كلقطة الذهب . وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " هي لك " . لا يمنع وجوب غرامتها ، فإنه قد أذن في لقطة الذهب والورق بعد تعريفها ، في أكلها وإنفاقها ، وقال : " هي كسائر مالك " . ثم أجمعنا على وجوب غرامتها ، كذلك الشاة ، ولا فرق في إباحة أكلها بين وجدانها في الصحراء أو في المصر

                                                                                                                                            وقال مالك ، وأبو عبيد ، وأصحاب الشافعي ، وابن المنذر : ليس له أكلها في المصر ; لأنه يمكن بيعها ، بخلاف الصحراء . ولنا أن ما جاز أكله في الصحراء ، أبيح في المصر ، كسائر المأكولات ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هي لك " . ولم يفرق ، ولأن أكلها معلل بما ذكرنا من الاستغناء عن الإنفاق عليها ، وهذا في المصر أشد منه في الصحراء .

                                                                                                                                            الثاني ، أن يمسكها على صاحبها ، وينفق عليها من ماله ، ولا يتملكها . وإن أحب أن ينفق عليها محتسبا بالنفقة على مالكها ، وأشهد على ذلك ، فهل له أن يرجع بالنفقة ؟ على روايتين إحداهما يرجع به

                                                                                                                                            نص عليه ، في رواية المروذي ، في طيرة أفرخت عند قوم ، فقضى أن الفراخ لصاحب الطيرة ، ويرجع بالعلف إذا لم يكن متطوعا . وقضى عمر بن عبد العزيز في من وجد ضالة ، فأنفق عليها ، وجاء ربها ، بأنه يغرم له ما أنفق ; وذلك لأنه أنفق على اللقطة لحفظها ، فكان من مال صاحبها ، كمؤنة الرطب والعنب . والرواية الثانية ، لا يرجع بشيء . وهو قول الشعبي ، والشافعي . ولم يعجب الشعبي قضاء عمر بن عبد العزيز ; لأنه أنفق على مال غيره بغير إذنه ، فلم يرجع .

                                                                                                                                            كما لو بني داره ، ويفارق العنب والرطب ، فإنه ربما كان تجفيفه والإنفاق عليه في ذلك أحظ لصاحبه ; لأن النفقة لا تتكرر ، والحيوان يتكرر الإنفاق عليه ، فربما استغرق قيمته ، فكان بيعه أو أكله أحظ ، فلذلك لم يحتسب المنفق عليها بما أنفق . الثالث أن يبيعها ويحفظ ثمنها لصاحبها ، وله أن يتولى ذلك بنفسه . وقال بعض أصحاب الشافعي : يبيعها بإذن الإمام .

                                                                                                                                            [ ص: 30 ] ولنا أنه إذا جاز له أكلها بغير إذن ، فبيعها أولى . ولم يذكر أصحابنا لها تعريفا في هذه المواضع

                                                                                                                                            وهذا قول مالك ; لحديث زيد بن خالد ; فإنه صلى الله عليه وسلم قال : { خذها ، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب } . ولم يأمر بتعريفها ، كما أمر في لقطة الذهب والورق . ولنا أنها لقطة لها خطر ، فوجب تعريفها ، كالمطعوم الكثير ، وإنما ترك ذكر تعريفها لأنه ذكرها بعد بيانه التعريف فيما سواها ، فاستغني بذلك عن ذكره فيها ، ولا يلزم من جواز التصرف فيها في الحول سقوط التعريف ، كالمطعوم .

                                                                                                                                            ( 4544 ) فصل : إذا أكلها ثبتت قيمتها في ذمته ، ولا يلزمه عزلها ; لعدم الفائدة في ذلك ، فإنها لا تنتقل من الذمة إلى المال المعزول . ولو عزل شيئا ثم أفلس ، كان صاحب اللقط أسوة الغرماء ، ولم يختص بالمال المعزول . وإن باعها ، وحفظ ثمنها ، وجاء صاحبها ، أخذه ، ولم يشاركه فيه أحد من الغرماء ; لأنه عين ماله ، لا شيء للمفلس فيه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية