الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              المطلب الرابع: الصيغة:

              ذكر ابن حجر [1] ، رحمه الله، في معرض حديثه عن الوقف: «وحقيقة الوقف شرعا ورود صيغة تقطع تصرف الواقف في رقبة الموقوف الذي يدوم الانتفاع به وتثبت صرف منفعته في جهة خير».

              وعرف الأذرعي الصيغة بأنها: «ما يصدر عن الواقف دالا على إنشاء الوقف» [2] . والتي يصبح بها الوقف لازما لا يجوز فسخه ولا بيعه ولا توريثه ولا هبته. فإذا صح الوقف لزم وانقطع تصرف الواقف فيه.

              وللوقف ألفاظ ستة، ثلاثة صريحة والباقي كناية. أما الصريحة فهي: «وقفت، وحبست، وسبلت»، متى أتى بواحدة من هذه الثلاث صار وقفا؛ لأن هذه الألفاظ ثبت لها عرف الاستعمال بين الناس، وورد ذلك في عرف الشرع كما في حديثه صلى الله عليه وسلم لعمر، رضي الله عنه: ( إن شئت حبست أصلها وسبلت الثمرة ) . [ ص: 53 ] وأما الكناية فهي: «تصدقت وحرمت وأبدت»، فهذه الألفاظ ليست صريحة؛ لأن لفظة الصدقة والتحريم مشتركة، فالصدقة تستعمل في الزكاة والهبات؛ والتحريم يستعمل في الظهار والإيمان، مما يجعله تحريما على نفسه وعلى غيره؛ والتأبيد يحتمل تأبيد التحريم أو الوقف. لذا لم يثبت لهذه الألفاظ عرف الاستعمال، فلا يستعمل الوقف بمجردها ككنايات الطلاق فيه، فإن اقترن إليها أحد ثلاثة أشياء حصل الوقف بها:

              أ- أن يقترن بها لفظة أخرى تخلصها، من الألفاظ الخمسة، فيقول: صدقة محبوسة أو موقوفة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة، أو يقول: هذه محرمة موقوفة أو محبوسة أو مسبلة أو مؤبدة.

              ب- أن يصفها بصفات الوقف، كأن يقول: صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث؛ لأن هذه القرينة ترفع الإشكال.

              ج- أن ينوي الوقف فيكون على ما نوى، إلا أن النية تجعله وقفا في الباطن دون الظاهر لعدم دلالة الضمائر. فإن اعترف بما نواه لزم الحكم لظهوره، وإن قال: ما أردت القول فالقول قوله؛ لأنه أعلم بما نوى [3] .

              وقد ذهب الجمهور إلى أن الوقف لا يصح إلا بالقول، واستثنى المالكية المسجد، فقال في «تبيين المسالك»: «ويكفي في المساجد التخلية»، قال الشارح: «ويعني أن التخلية بين الناس وبين المسجد ونحوه كالمدرسة، تنوب عن الصيغة الآنفة الذكر. فمن بنى مسجدا وخلى بينه وبين الناس ولم يخص [ ص: 54 ] قوما عن قوم ولا فرضا عن نفل، فإنه يعتبر وقفا وإن لم يتلفظ بذلك» [4] ، وهو قول أبي حنيفة حكاه الشافعي، رحمه الله، في (الأم) [5] ، وقال في (فتح القدير) [6] : «وإذا بنى مسجدا لم يزل ملكه حتى يفرزه عن ملكه، ويأذن للناس بالصلاة فيه، فإذا صلى فيه واحد زال، عند أبي حنيفة، ملكه».

              والراجح في مذهب أحمد [7] ، رحمـه الله، أن الوقف يحصـل بالفعل مع القرائن الدالـة عليه، مثل أن يبني مسجـدا ويأذن فيه للناس بالصلاة، أو مقـبرة ويأذن في الدفن فيها، أو سقاية ويأذن في دخولها، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، فيصح الوقف عندهم بالقول وبالفعل الدال عليه [8] .

              مما تقدم، يتبين أن جمهور الفقهاء على خـلاف مع الحنفية، فهم يعدون أن أركان الوقف أربعة وهي: (العين الموقوفة، والصيغة والواقف والموقوف عليهم) ، بينما يعد الحنفية (الصيغة) الركن الوحيد، وهذا هو شأنهم في سائر العقود. [ ص: 55 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية