الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              المطلب الثالث: المنع مطلقا:

              وقد ذهب إلى ذلك شريح القاضي وأبو حنيفة في رواية عنه، وهو قول عامة أهل الكوفة [1] ؛ وقد استدل المانعون للوقف مطلقا بالمنقول والمعقول. أما المنقول فهو:

              1- ما روي عـن عبد الله بن عبـاس، رضي الله عنهمـا، أنه قال: لما نزلت سورة النسـاء، وفرضت فيهـا الفرائض (أي المواريث) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا حبس على فرائض الله ) [2] ؛ حيث يستدل من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن حبس ميراث المتوفى عن القسمة بين الورثة، ولما كان الوقف حبسا فهو منفي شرعا ومنهي عنه، وأن الإحباس منع بعد نزول آية المواريث في سورة النساء.

              2- ما روي عن أبي عـون عن شريـح، قـال: جـاء محمد صلى الله عليه وسلم بمنع الحبس [3] . [ ص: 62 ]

              - مناقشة الأدلة:

              رد جمهور الفقهاء على أدلة الذين ذهبوا إلى المنع بالآتي:

              1- أن حديث «لا حبس على فرائض الله» مردود كونه ضعيفا، بل إن ابن حزم عده موضوعا [4] ؛ ذلك لأن في سنده ابن لهيعة، وهو من لا خير فيه، وأخوه مثله.

              2- على فرض صحته، فليس فيه ما يؤيد دعواهم؛ لأن الوقف ليس حبسا عن فرائض الله، وإنما هو تصرف في العين حال حياة الواقف. وهو في هذا كالصدقة العاجلة والهبة، ولم يقل أحد بأن فيهما حبسا [5] .

              وقد أوضح ابن حزم حول الاستـدلال بحديث «لا حبس على فرائض الله» على منع الوقف، ما نصه: «إن هذا الاستدلال فاسـد؛ لأنهم لا يختلفون في جواز الهبة والصدقة في الحياة والوصية بعد الموت، وكل هذه مسقطة لفرائض الورثة عما لو تكن فيه لورثوه على فرائض الله عز وجل. فيجب وفقا لهذا القول إبطال كل هبة، وكل صدقة، وكل وصية؛ لأنها مانعة من فرائض الله تعالى بالمواريث، فإن قالوا: هذه شرائع جاء بها النص، قلنا: والحبس شريعة جاء بها النص، ولولا ذلك لم يجز» [6] .

              أما عن قول شريح: (جاء محمد بمنع الحبس، ونحوه) فهو مردود للأسباب الآتية: [ ص: 63 ] 1- أن قوله هذا موقوف عليه، ومرسل عنه، وأيهما كان لم يلزم. بل الصحيح أن محمدا جاء بإثبات الحبس كما تقدم، من أدلة القائلين بالجواز) [7] .

              2- يدل لفظ شريح هذا على أن الحبس كان معروفا ومشروعا، فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يذكر أي دليل عن الجاهلية معرفتهم لنظام كنظام الوقف، الذي يزعم شريح أن محمدا صلى الله عليه وسلم أبطله.

              قال ابن حزم في ذلك [8] : إن العرب لم تعرف في جاهليتها الحبس، الذي اختلفنا فيه، وإنما هو اسم شرعي، وشرع إسلامي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء بالصلاة والزكاة والصيام، ولولاه صلى الله عليه وسلم ما عرفنا شيئا من هذه الشرائع ولا غيرها، فبطل هذا الكلام جملة.

              - الترجيح:

              مما تقدم يتضح أن الوقف أعظم القربات، وذلك لقوة ورجاحة أدلة الفريق الأول.

              لقد تبين لنا من هذا الفصل تعريف مفهوم الوقف لغة وبالاصطلاح الشرعي والاقتصادي والقانوني.كذلك تمت الإشارة إلى أركانه وحكمه وأنواعه؛ والغرض من تبيان ذلك هو التأسيس لشرح الدور الذي يمكن أن يضطلع به الوقف في التنمية البشرية، كما سيتضح لاحقا. [ ص: 64 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية