الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب المرتد هو لغة الراجع مطلقا وشرعا ( الراجع عن دين الإسلام وركنها إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد الإيمان ) وهو تصديق محمد صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به عن الله تعالى مما علم مجيئه ضرورة وهل هو فقط أو هو مع الإقرار ؟ قولان وأكثر الحنفية على الثاني والمحققون على الأول والإقرار شرط [ ص: 222 ] لإجراء الأحكام الدنيوية بعد الاتفاق على أنه يعتقد متى طولب به أتى به فإن طولب به فلم يقر فهو كفر عناد قاله المصنف وفي الفتح من هزل بلفظ كفر ارتد وإن لم يعتقده للاستخفاف فهو ككفر العناد . [ ص: 223 ] والكفر لغة : الستر . وشرعا : تكذيبه صلى الله عليه وسلم في شيء مما جاء به من الدين ضرورة وألفاظه تعرف في الفتاوى ، بل أفردت بالتآليف مع أنه لا يفتى بالكفر بشيء منها إلا فيما اتفق المشايخ عليه كما سيجيء قال في البحر : وقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء منها .

التالي السابق


باب المرتد شروع في بيان أحكام الكفر الطارئ بعد بيان الأصلي أي الذي لم يسبقه إيمان ( قوله وركنها إجراء كلمة الكفر على اللسان ) هذا بالنسبة إلى الظاهر الذي يحكم به الحاكم ، وإلا فقد تكون بدونه كما لو عرض له اعتقاد باطل أو نوى أن يكفر بعد حين أفاده ( قوله بعد الإيمان ) خرج به الكافر إذا تلفظ بمكفر ، فلا يعطى حكم المرتد نعم قد يقتل الكافر ، ولو امرأة إذا أعلن بشتمه صلى الله عليه وسلم كما مر في الفصل السابق ( قوله هو تصديق إلخ ) معنى التصديق قبول القلب ، وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم بحيث تعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال كالوحدانية والنبوة والبعث والجزاء ، ووجوب الصلاة والزكاة وحرمة الخمر ونحوها . ا هـ . ح عن شرح المسايرة ( قوله وهل هو فقط ) أي وهل الإيمان التصديق فقط ، وهو المختار عند جمهور الأشاعرة وبه قال الماتريدي عن شرح المسايرة ( قوله أو هو مع الإقرار ) قال في المسايرة : وهو منقول عن أبي حنيفة ، ومشهور عن أصحابه وبعض المحققين من الأشاعرة وقال الخوارج : هو التصديق مع الطاعة ، ولذا كفروا بالذنب لانتفاء جزء الماهية وقال الكرامية : هو التصديق باللسان فقط فإن طابق تصديق القلب ، فهو مؤمن ناج وإلا فهو مؤمن مخلد في النار . ا هـ . ح قلت : وقد حقق في المسايرة أنه لا بد في حقيقة الإيمان من عدم ما يدل على الاستخفاف من قول أو فعل ويأتي بيانه .

( قوله والإقرار شرط ) هو من تتمة القول الأول أما على القول الثاني فهو شطر لأنه جزء من ماهية الإيمان ، فلا يكون بدونه مؤمنا لا عند الله تعالى ، ولا في أحكام الدنيا لكن بشرط أن يدرك زمنا يتمكن [ ص: 222 ] فيه من الإقرار وإلا فيكفيه التصديق اتفاقا كما ذكره التفتازاني في شرح العقائد ( قوله لإجراء الأحكام الدنيوية ) أي من الصلاة عليه ، وخلفه والدفن في مقابر المسلمين والمطالبة بالعشور ، والزكوات ونحو ذلك ولا يخفى أن الإقرار لهذا الغرض لا بد أن يكون على وجه الإعلان ، والإظهار على الإمام وغيره من أهل الإسلام ، بخلاف ما إذا كان لإتمام الإيمان فإنه يكفي مجرد التكلم ، وإن لم يظهر على غيره كذا في شرح المقاصد ( قوله بعد الاتفاق ) أي بعد اتفاق القائلين بعدم اعتبار الإقرار قال في شرح المسايرة : واتفق القائلون بعدم اعتبار الإقرار ، على أنه يلزم المصدق أن يعتقد أنه متى طولب به أتى به فإن طولب به فلم يقر به فهو أي كفه عن الإقرار كفر عناد ، وهذا ما قالوا إن ترك العناد شرط وفسروه به أي فسروا ترك العناد بأن يعتقد أنه متى طولب بالإقرار أتى به ا هـ بقي ما لو لم يعتقد ذلك بأن كان خالي الذهن ، أو اعتقد أنه متى طولب به لا يأتي به لكنه عند ما طولب به أتى به فهل يكفي نظرا لحصول المقصود أو لا يكفي نظرا لاشتراطهم الاعتقاد السابق فليحرر . ا هـ . ح .

أقول : الظاهر أن المراد بالاشتراط المذكور نفي اعتقاد عدمه أي لا يعتقد أنه متى طولب به لا يقر ، وفي شرح المقاصد وشرح التحرير ما يفيده ونصه : ثم الخلاف فيما إذا كان قادرا ، وترك التكلم لا على وجه الإباء إذ العاجز كالأخرس مؤمن اتفاقا والمصر على عدم الإقرار مع المطالبة به كافر وفاقا لكون ذلك من أمارات عدم التصديق ولهذا أطبقوا على كفر أبي طالب فظهر أن خالي الذهن لو أتى به عند المطالبة مؤمن لعدم الإصرار على عدم الإقرار ، ومن اعتقد عدم الإتيان به عندها ليس مؤمنا فلو أتى به عندها كان ذلك إيمانا مستأنفا هذا ما ظهر لي ( قوله من هزل بلفظ كفر ) أي تكلم به باختياره غير قاصد معناه ، وهذا لا ينافي ما مر من أن الإيمان هو التصديق فقط أو مع الإقرار لأن التصديق ، وإن كان موجودا حقيقة لكنه زائل حكما لأن الشارع جعل بعض المعاصي أمارة على عدم وجوده كالهزل المذكور ، وكما لو سجد لصنم أو وضع مصحفا في قاذورة فإنه يكفر ، وإن كان مصدقا لأن ذلك في حكم التكذيب ، كما أفاده في شرح العقائد ، وأشار إلى ذلك بقوله للاستخفاف ، فإن فعل ذلك استخفاف واستهانة بالدين فهو أمارة عدم التصديق ولذا قال في المسايرة : وبالجملة فقد ضم إلى التصديق بالقلب ، أو بالقلب واللسان في تحقيق الإيمان أمور الإخلال بها إخلال بالإيمان اتفاقا ، كترك السجود لصنم ، وقتل نبي والاستخفاف به ، وبالمصحف والكعبة .

وكذا مخالفة أو إنكار ما أجمع عليه بعد العلم به لأن ذلك دليل على أن التصديق مفقود ، ثم حقق أن عدم الإخلال بهذه الأمور أحد أجزاء مفهوم الإيمان فهو حينئذ التصديق والإقرار وعدم الإخلال بما ذكر بدليل أن بعض هذه الأمور ، تكون مع تحقق التصديق والإقرار ، ثم قال ولاعتبار التعظيم المنافي للاستخفاف كفر الحنفية بألفاظ كثيرة ، وأفعال تصدر من المنتهكين لدلالتها على الاستخفاف بالدين كالصلاة بلا وضوء عمدا بل بالمواظبة على ترك سنة استخفافا بها بسبب أنه فعلها النبي صلى الله عليه وسلم زيادة أو استقباحها كمن استقبح من آخر جعل بعض العمامة تحت حلقه أو إحفاء شاربه ا هـ . قلت : ويظهر من هذا أن ما كان دليل الاستخفاف يكفر به ، وإن لم يقصد الاستخفاف لأنه لو توقف على قصده لما احتاج إلى زيادة عدم الإخلال بما مر لأن قصد الاستخفاف مناف للتصديق ( قوله فهو ككفر العناد ) أي ككفر من صدق بقلبه وامتنع عن الإقرار بالشهادتين عنادا ومخالفة فإنه أمارة عدم التصديق وإن قلنا [ ص: 223 ] إن الإقرار ليس ركنا ( قوله والكفر لغة الستر ) ومنه سمي الفلاح كافرا لأنه يستر البذر في الأرض ومنه كفر النعمة وهو موجود في المعنى الشرعي لأنه ستر ما وجب إظهاره .

( قوله تكذيبه صلى الله عليه وسلم إلخ ) المراد بالتكذيب عدم التصديق الذي مر أي عدم الإذعان والقبول ، لما علم مجيئه به صلى الله عليه وسلم ضرورة ، أي علما ضروريا لا يتوقف على نظر واستدلال ، وليس المراد التصريح بأنه كاذب في كذا لأن مجرد نسبة الكذب إليه صلى الله عليه وسلم كفر وظاهر كلامه تخصيص الكفر بجحد الضروري فقط ، مع أن الشرط عندنا ثبوته على وجه القطع وإن لم يكن ضروريا ، بل قد يكون استخفافا من قول أو فعل كما مر ، ولذا ذكر في المسايرة أن ما ينفي الاستسلام أو يوجب التكذيب ، فهو كفر فما ينفي الاستسلام كل ما قدمناه عن الحنفية أي مما يدل على الاستخفاف ، وما ذكر قبله من قتل نبي إذ الاستخفاف فيه أظهر وما يوجب التكذيب جحد كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ادعاؤه ضرورة ، وأما ما لم يبلغ حد الضرورة كاستحقاق بنت الابن السدس مع البنت بإجماع المسلمين ، فظاهر كلام الحنفية الإكفار بجحده فإنهم لم يشرطوا سوى القطع في الثبوت ويجب حمله على ما إذ علم المنكر ثبوته قطعا لأن مناط التكفير ، وهو التكذيب أو الاستخفاف عند ذلك يكون أما إذا لم يعلم فلا إلا أن يذكر له أهل العلم ذلك فيلج ا هـ مطلب في منكر الإجماع وهذا موافق لما قدمناه عنه من أنه يكفر بإنكار ما أجمع عليه بعد العلم به ، ومثله ما في نور العين عن شرح العمدة أطلق بعضهم ، أن مخالف الإجماع يكفر والحق أن المسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر عن صاحب الشرع كوجوب الخمس ، وقد لا يصحبها فالأول يكفر جاحده لمخالفته التواتر لا لمخالفته الإجماع . ا هـ .

ثم نقل في نور العين عن رسالة الفاضل الشهير حسام جلبي من عظماء علماء السلطان سليم بن بايزيدخان ما نصه إذا لم تكن الآية أو الخبر المتواتر قطعي الدلالة أو لم يكن الخبر متواترا ، أو كان قطعيا لكن فيه شبهة أو لم يكن الإجماع إجماع الجميع أو كان ولم يكن إجماع الصحابة أو كان ولم يكن إجماع جميع الصحابة أو كان إجماع جميع الصحابة ولم يكن قطعيا بأن لم يثبت بطريق التواتر أو كان قطعيا لكن كان إجماعا سكوتيا ففي كل من هذه الصور لا يكون الجحود كفرا يظهر ذلك لمن نظر في كتب الأصول فاحفظ هذا الأصل فإنه ينفعك في استخراج فروعه حتى تعرف منه صحة ما قيل ، إنه يلزم الكفر في موضع كذا ، ولا يلزم في موضع آخر . ا هـ . [ تنبيه ] في البحر والأصل أن من اعتقد الحرام حلالا فإن كان حراما لغيره كمال الغير لا يكفر وإن كان لعينه فإن كان دليله قطعيا كفر ، وإلا فلا وقيل التفصيل في العالم أما الجاهل فلا يفرق بين الحرام لعينه ولغيره وإنما الفرق في حقه أن ما كان قطعيا كفر به وإلا فلا فيكفر إذا قال الخمر ليس بحرام وتمامه فيه ( قوله بل أفردت بالتآليف ) من أحسن ما ألف فيها ما ذكره في آخر نور العين ، وهو تأليف مستقل ومن ذلك كتاب الإعلام في قواطع الإسلام لابن حجر المكي ذكر فيه المكفرات عند الحنفية والشافعية وحقق فيه المقام ، وقد ذكر في البحر جملة من المكفرات .

مطلب ما يشك في أنه ردة لا يحكم بها ( قوله قال في البحر إلخ ) سبب ذلك ما ذكره قبله بقوله وفي جامع الفصولين ، روى الطحاوي عن أصحابنا [ ص: 224 ] لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه ثم ما تيقن أنه ردة يحكم بها وما يشك أنه ردة لا يحكم بها إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك مع أن الإسلام يعلو وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا أن لا يبادر بتكفير أهل الإسلام مع أنه يقضي بصحة إسلام المكره . أقول : قدمت هذا ليصير ميزانا فيما نقلته في هذا الفصل من المسائل ، فإنه قد ذكر في بعضها إنه كفر مع أنه لا يكفر على قياس هذه المقدمة فليتأمل ا هـ ما في جامع الفصولين وفي الفتاوى الصغرى : الكفر شيء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنه لا يكفر ا هـ وفي الخلاصة وغيرها : إذا كان في المسألة وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنعه فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينا للظن بالمسلم زاد في البزازية إلا إذا صرح بإرادة موجب الكفر فلا ينفعه التأويل ح وفي التتارخانية : لا يكفر بالمحتمل ، لأن الكفر نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية في الجناية ومع الاحتمال لا نهاية ا هـ والذي تحرر أنه لا يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة فعلى هذا فأكثر ألفاظ التكفير المذكورة لا يفتى بالتكفير فيها ولقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء منها ا هـ كلام البحر باختصار




الخدمات العلمية