الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون

"يا" حرف نداء مضمن معنى التنبيه، قال الخليل : والعامل في المنادى فعل مضمر كأنه يقول: أريد أو أدعو، وقال أبو علي الفارسي : العامل حرف نداء عصب به معنى الفعل المضمر، فقوي فعمل، ويدل على ذلك أنه ليس في حروف المعاني ما يلتئم بانفراده مع الأسماء غير حرف النداء، و"بني" منادى مضاف، و "إسرائيل" هو: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وهو اسم أعجمي، يقال فيه: إسرائل، وإسرائيل ، وتميم تقول: إسرائين، و"إسرا" هو بالعبرانية عبد، و"إيل" اسم الله تعالى، فمعناه: عبد الله. وحكى المهدوي أن "إسرا" مأخوذ من الشدة في الأسر، كأنه الذي شد الله أسره، وقوى خلقه، وروي عن نافع ، والحسن ، والزهري ، وابن أبي إسحاق ، ترك همز "إسراييل".

والذكر في كلام العرب على أنحاء، وهذا منها، ذكر القلب الذي هو ضد النسيان. والنعمة هنا اسم الجنس، فهي مفردة بمعنى الجمع، وتحركت الياء من "نعمتي" لأنها لقيت الألف واللام، ويجوز تسكينها، وإذا سكنت حذفت للالتقاء، [ ص: 194 ] وفتحها أحسن لزيادة حرف في كتاب الله تعالى، وخصص بعض العلماء النعمة في هذه الآية، فقال الطبري : بعثة الرسل منهم، وإنزال المن والسلوى، وإنقاذهم من تعذيب آل فرعون ، وتفجير الحجر. وقال غيره: النعمة هنا، أن أدركهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال آخرون: هي أن منحهم علم التوراة، وجعلهم أهله وحملته، وهذه أقوال على جهة المثال، والعموم في اللفظة هو الحسن. وحكى مكي أن المخاطب من بني إسرائيل بهذا الخطاب هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم. لأن الكافر لا نعمة لله عليه.

وقال ابن عباس ، وجمهور العلماء: الخطاب لجميع بني إسرائيل في مدة النبي عليه السلام، مؤمنهم وكافرهم.

والضمير في "عليكم" يراد به على آبائكم، كما تقول العرب : ألم نهزمكم يوم كذا، لوقعة كانت بين الآباء والأجداد؟ ومن قال: إنما خوطب المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم استقام الضمير في "عليكم"، ويجيء كل ما توالى من الأوامر على جهة الاستدامة.

وقوله تعالى: وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم . أمر وجوابه، فقال الخليل : جزم الجواب في الأمر من معنى الشرط، والوفاء بالعهد هو التزام ما تضمن من فعل. وقرأ الزهري : "أوف" بفتح الواو وشد الفاء للتكثير.

واختلف المتأولون في هذا العهد إليهم، فقال الجمهور: ذلك عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه، فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، وقيل: العهد قوله تعالى: خذوا ما آتيناكم بقوة . الآية: وقال ابن جريج : العهد قوله تعالى: [ ص: 195 ] ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل الآية، وعهدهم: هو أن يدخلهم الجنة، ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم بعهدهم، لا علة له، لأن العلة لا تتقدم المعلول.

وقوله: وإياي فارهبون الاسم "إيا"، والياء ضمير ككاف المخاطب، وقيل: "إياي" بجملته هو الاسم، وهو منصوب بإضمار فعل مؤخر تقديره: وإياي ارهبوا فارهبون، وامتنع أن يقدر مقدما لأن الفعل إذا تقدم لم يحسن أن يتصل به إلا ضمير خفيف، فكان يجيء: "وارهبون".

والرهبة يتضمن الأمر بها معنى التهديد، وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية. وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء

و"آمنوا" معناه: صدقوا، و"مصدقا" نصب على الحال من الضمير في "أنزلت"، وقيل: من "ما"، والعامل فيه "آمنوا"، وما أنزلت كناية عن القرآن، و لما معكم يعني من التوراة.

وقوله: ولا تكونوا أول كافر به هذا من مفهوم الخطاب الذي المذكور فيه والمسكوت عنه حكمهما واحد، فالأول والثاني وغيرهما داخل في النهي، ولكن حذروا البدار إلى الكفر به، إذ على الأول كفل من فعل المقتدى به، ونصب "أول" على خبر كان.

[ ص: 196 ] قال سيبويه : أول "أفعل" لا فعل له لاعتلال فائه وعينه. قال غير سيبويه : هو أوأل من وأل إذا نجا خففت الهمزة وأبدلت واوا وأدغمت، وقيل: إنه من آل فهو "أأول" قلب فجاء وزنه "أعفل"، وسهل وأبدل وأدغم.

ووحد "كافر" وهو بنية الجمع; لأن أفعل إذا أضيف إلى اسم متصرف من فعل جاز إفراد ذلك الاسم، والمراد به الجماعة، قال الشاعر:


وإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع



وسيبويه يرى أنها نكرة مختصرة من معرفة كأنه قال: ولا تكونوا أول كافر به . وقيل: معناه "ولا تكونوا أول فريق كافر".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد كان كفر قبلهم كفار قريش فإنما معناه: من أهل الكتاب، إذ هم منظور إليهم في مثل هذا، لأنهم حجة مظنون بهم علم.

واختلف في الضمير في "به" على من يعود؟ فقيل: على محمد عليه السلام، وقيل: على التوراة إذ تضمنها قوله: لما معكم ، وعلى هذا القول يجيء أول كافر به مستقيما على ظاهره في الأولية، وقيل: الضمير في "به" عائد على القرآن، إذ تضمنه قوله: بما أنزلت .

واختلف المتأولون في الثمن الذي نهوا أن يشتروه بالآيات، فقالت طائفة: إن [ ص: 197 ] الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك، وفي كتبهم: "علم مجانا كما علمت مجانا، أي باطلا بغير أجرة". وقال قوم: كانت للأحبار مأكلة يأكلونها على العلم كالراتب، فنهوا عن ذلك، وقال قوم: إن الأحبار أخذوا رشى على تغيير قصة محمد عليه السلام في التوراة، ففي ذلك قال تعالى: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وقال قوم: معنى الآية: ولا تشتروا بأوامري ونواهي وآياتي ثمنا قليلا، يعني الدنيا ومدتها، والعيش الذي هو نزر لا خطر له، وقد تقدم نظير قوله: وإياي فاتقون وبين "اتقون" و "ارهبون" فرق أن الرهبة مقرون بها وعيد بالغ.

التالي السابق


الخدمات العلمية