الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر خبر الخنافس وسوق بغداد

ثم خلف المثنى بالحيرة بشير بن الخصاصية ، وسار يمخر السواد ، وأرسل إلى ميسان ودستميسان ، وأذكى المسالح ، ونزل أليس ، قرية من قرى الأنبار ، وهذه الغزوة تدعى غزوة الأنبار الآخرة ، وغزوة أليس الآخرة .

وجاء المثنى رجلان أحدهما أنباري فدله على سوق الخنافس ، والثاني حيري دله على بغداد ، فقال المثنى : أيتهما قبل صاحبتها ؟ فقالا : بينهما مسيرة أيام . قال : أيهما أعجل ؟ قالا : سوق الخنافس يجتمع بها تجار مدائن كسرى ، والسواد وربيعة وقضاعة يخفرونهم . فركب المثنى وأغار على الخنافس يوم سوقها ، وبها خيلان من ربيعة وقضاعة ، وعلى قضاعة رومانس بن وبرة ، وعلى ربيعة السليل بن قيس وهم الخفراء ، فانتسف السوق وما فيها ، وسلب الخفراء . ثم رجع فأتى الأنبار فتحصن أهلها منه ، فلما عرفوه نزلوا إليه وأتوه بالأعلاف والزاد ، وأخذ منهم الأدلاء على سوق بغداد ، وأظهر لدهقان الأنبار أنه يريد المدائن ، وسار منها إلى بغداد ليلا ، وعبر إليهم وصبحهم في أسواقهم ، فوضع السيف فيهم وأخذ ما شاء . وقال المثنى : لا تأخذوا إلا الذهب والفضة والحر من كل شيء . ثم عاد راجعا حتى نزل بنهر السالحين بالأنبار ، فسمع أصحابه [ ص: 283 ] يقولون : ما أسرع القوم في طلبنا ، فخطبهم وقال : احمدوا الله وسلوه العافية ، وتناجوا بالبر والتقوى ، ولا تتناجوا بالإثم والعدوان ، وانظروا في الأمور وقدروها ثم تكلموا ، إنه لم يبلغ النذير مدينتهم بعد ، ولو بلغهم لحال الرعب بينهم وبين طلبكم ، إن للغارات روعات تضعف القلوب يوما إلى الليل ، ولو طلبكم المحامون من رأي العين ما أدركوكم وأنتم على العراب حتى تنتهوا إلى عسكركم ، ولو أدركوكم لقاتلتهم التماس الأجر ورجاء النصر ، فثقوا بالله وأحسنوا به الظن ، فقد نصركم في مواطن كثيرة .

ثم سار بهم إلى الأنبار ، وكان من خلفه من المسلمين يمخرون السواد ويشنون الغارات ما بين أسفل كسكر وأسفل الفرات ، وجسوا مثقبا إلى عين التمر وفي أرض الفلاليج ، والمثنى بالأنبار .

ولما رجع المثنى من بغداد إلى الأنبار بعث المضارب العجلي في جمع إلى الكباث وعليه فارس العناب التغلبي ، ثم لحقهم المثنى فسار معهم ، فوجدوا الكباث قد سار من كان به ، ومعهم فارس العناب ، فسار المسلمون خلفه فلحقوه وقد رحل من الكباث ، فقتلوا في أخريات أصحابه وأكثروا القتل . فلما رجعوا إلى الأنبار سرح فرات بن حيان التغلبي وعتيبة بن النهاس وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب بصفين ، ثم اتبعهما المثنى واستخلف على الناس عمرو بن أبي سلمى الهجيمي . فلما دنوا من صفين فر من بها وعبروا الفرات إلى الجزيرة ، وفني الزاد الذي مع المثنى وأصحابه ، فأكلوا رواحلهم إلا ما لابد منه حتى جلودها ، ثم أدركوا عيرا من أهل دبا وحوران ، فقتلوا من بها ، وأخذوا ثلاثة نفر من تغلب كانوا خفراء ، وأخذوا العير ، فقال لهم : دلوني . فقال أحدهم : آمنوني على أهلي ومالي ، وأدلكم على حي من تغلب . فآمنه المثنى وسار معهم يومه ، فهجم العشي على القوم ، والنعم صادرة عن الماء ، وأصحابها جلوس بأفنية البيوت ، فقتل المقاتلة ، وسبى الذرية ، واستاق الأموال ، وكان التغلبيون بني ذي الرويحلة ، فاشترى من كان مع المثنى من ربيعة السبايا بنصيبه من الفيء وأعتقوهم ، وكانت ربيعة لا تسابي ، إذ العرب يتسابون في جاهليتهم .

[ ص: 284 ] وأخبر المثنى أن جمهور من سلك البلاد قد انتجع شاطئ دجلة ، فخرج المثنى وعلى مجنبتيه النعمان بن عوف ومطر الشيبانيان ، وعلى مقدمته حذيفة بن محصن الغلفاني ، فساروا في طلبهم فأدركوهم بتكريت ، فأصابوا ما شاءوا من النعم ، وعاد إلى الأنبار . ومضى عتيبة وفرات ومن معهما حتى أغاروا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين ، فأغاروا عليهم حتى رموا طائفة منهم في الماء ، فجعلوا ينادونهم : الغرق الغرق ! وجعل عتيبة وفرات يذمران الناس ويناديانهم : تغريق بتحريق ! يذكرانهم يوما من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوما من بكر بن وائل في غيضة من الغياض . ثم رجعوا إلى المثنى وقد غرقوهم ، وقد بلغ الخبر عمر فبعث إلى عتيبة وفرات فاستدعاهما ، فسألهما عن قولهما ، فأخبراه أنهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب ذحل ، إنما هو مثل فاستحلفهما وردهما إلى المثنى .

( عتيبة بن النهاس ، بالتاء المثناة من فوقها ، والياء المثناة من تحتها ، والباء الموحدة ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية