الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم

                                                                                                                                                                                                قرئ "لا يحزنك" بضم الياء ، ويسرعون ، والمعنى : لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر أي : في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للسلام ومن موالاة المشركين ، فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم . يقال : أسرع فيه الشيب ، وأسرع فيه الفساد ، بمعنى : وقع فيه سريعا ، فكذلك مسارعتهم في الكفر ووقوعهم وتهافتهم فيه أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها ، و " آمنا" مفعول قالوا ، و بأفواههم متعلق بـ “ قالوا" لا بـ “ آمنا" ومن الذين هادوا : منقطع مما قبله خبر لـ “سماعون" ، أي : ومن اليهود قوم سماعون ، ويجوز أن يعطف على من الذين قالوا ويرتفع سماعون على : هم سماعون ، والضمير للفريقين . أو للذين هادوا ، ومعنى سماعون للكذب : قابلون لما يفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولك : الملك يسمع كلام فلان ، ومنه "سمع الله لمن حمده" سماعون لقوم آخرين لم يأتوك : يعني اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجافوا عنه لما أفرط فيهم من شدة البغضاء وتبالغ العداوة ، أي : قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك ، وقيل : سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه بأن يمسخوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير ، سماعون من رسول الله لأجل [ ص: 236 ] قوم آخرين من اليهود وجهوهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منه ، وقيل : السماعون : بنو قريظة ، والقوم الآخرون : يهود خيبر يحرفون الكلم : يميلونه ويزيلونه عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها ، فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا مواضع إن أوتيتم هذا : المحرف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق واعملوا به وإن لم تؤتوه وأفتاكم محمد بخلافه فاحذروا وإياكم وإياه فهو الباطل والضلال ، وروي : أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة ، فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطا منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وقالوا : إن أمركم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن يأمركم بالرجم فلا تقبلوا ، وأرسلوا الزانيين معهم ، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، فقال : "هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له : ابن صوريا؟" قالوا : نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض ورضوا به حكما . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه ، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟" قال : نعم ، فوثب عليه سفلة اليهود ، فقال : خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب . ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده .

                                                                                                                                                                                                [ ص: 237 ] ومن يرد الله فتنته تركه مفتونا وخذلانه فلن تملك له من الله شيئا : فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم; لأنهم ليسوا من أهلها ، لعلمه أنها لا تنفع فيهم ولا تنجع إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله [النحل : 104] كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم [آل عمران : 86] .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية