الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 210 ] باب الظهار

وهو أن يشبه امرأته أو عضوا يعبر به عن بدنها أو جزءا شائعا منها بعضو لا يحل النظر إليه من أعضاء من لا يحل له نكاحها على التأبيد . وحكمه : حرمة الجماع ودواعيه حتى يكفر ، فإن جامع قبل التكفير استغفر الله تعالى ، والعود الذي تجب به الكفارة أن يعزم على وطئها ، وينبغي لها أن تمنع نفسها منه وتطالبه بالكفارة ويجبره القاضي عليها ، ولو قال : أنت علي مثل أمي أو كأمي ، فإن أراد الكرامة صدق ، وإن أراد الظهار فظهار ، وإن أراد الطلاق فواحدة بائنة ، وإن لم يكن له نية فليس بشيء ، ولو قال لنسائه : أنتن علي كظهر أمي فعليه لكل واحدة كفارة ، وإن ظاهر منها مرارا في مجلس واحد أو في مجالس فعليه لكل ظهار كفارة .

التالي السابق


باب الظهار

وهو في اللغة مشتق من لفظ الظهر ، يقال : ظاهر يظاهر ظهارا ، وأصله قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، ثم انتقل إلى غيره من الأعضاء ، وإلى غيرها من المحرمات .

( وهو أن يشبه امرأته أو عضوا يعبر به عن بدنها ) كالرأس والوجه ، ( أو جزءا شائعا منها ) كالثلث والربع ، ( بعضو لا يحل النظر إليه ) كالظهر والفخذ والبطن والفرج ، لأن الكل في معنى الظهر في الحرمة ( من أعضاء من لا يحل له نكاحها على التأبيد ) كأمه وبنته وجدته وعمته وخالته وأخته وغيرهن من المحرمات على التأبيد ، لأن الكل كالأم في تأبيد الحرمة .

( وحكمه : حرمة الجماع ودواعيه حتى يكفر ) تحرزا عن الوقوع فيه كما في الإحرام ، بخلاف الحيض فإنه يكثر وقوعه فيحرج ولا كذلك الظهار ، وكان في الجاهلية طلاقا فجعله الشرع موجبا حرمة متناهية بالكفارة .

والأصل فيه حديث خولة بنت ثعلبة ، وقيل بنت خويلد كانت تحت أوس بن الصامت وكانا من الأنصار فأرادها فأبت عليه ، فقال : أنت علي كظهر أمي فكان أول ظهار في الإسلام ، ثم ندم وكان الظهار طلاقا في الجاهلية ، فقال : ما أظنك إلا قد حرمت علي ، فقالت : والله ما [ ص: 211 ] ذاك بطلاق ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أوسا تزوجني وأنا شابة غنية ذات مال وأهل ، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبرت سني ظاهر مني وقد ندم ، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به ، فقال عليه الصلاة والسلام : " حرمت عليه ، فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا قال لها : حرمت عليه هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي ، وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلي جاعوا ، وجعلت تقول : اللهم إني أشكو إليك ، اللهم فأنزل على لسان نبيك ، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي كما كان يتغشاه ، فلما سري عنه قال : يا خولة قد أنزل الله فيك وفي أوس قرآنا وتلا : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) الآيات ، والظهار جائز ممن يجوز طلاقه من المسلمين لأن كل واحد منهما يوجب حرمة الزوجة ، ولا يكون من المطلقة بائنا لأنها حرام عليه .

قال : ( فإن جامع قبل التكفير استغفر الله تعالى ) لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا ظاهر من امرأته فرأى خلخالها في القمر فوقع عليها ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك ، فقال له : " استغفر الله تعالى ولا تعد حتى تكفر " ، ولأنه فعل فعلا محرما والأفعال المحرمة توجب الاستغفار ولا شيء عليه غيره ، لأنه لو كان لبينه عليه الصلاة والسلام ، ولا يحل قربانها بعد زوج آخر ولا بملك اليمين حتى يكفر لقوله تعالى : ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) .

قال : ( والعود الذي تجب به الكفارة أن يعزم على وطئها ) لقوله عليه الصلاة والسلام : " ولا تعد حتى تكفر " ، نهى عن الوطء إلى غاية التكفير فتنتهي حرمة الوطء بالتكفير ، ( وينبغي لها أن تمنع نفسها منه لأنه حرام وتطالبه بالكفارة ويجبره القاضي عليها ) إيفاء لحقها ، وكل ما لا يصدقه القاضي فيه لا يسع المرأة أن تصدقه فيه ، فلو قال : أردت الإخبار عما مضى بكذب لم يصدق قضاء وصدق ديانة ، ولو قال : أنا منك مظاهر ، أو ظاهرت منك يصير مظاهرا لأنه صريح فيه ، ولو شبهها بامرأة زنى بها أبوه أو ابنه أو بابنة مزنيته فهو مظاهر عند أبي يوسف خلافا لمحمد ، بناء على أن القاضي إذا قضى بجواز نكاحها ينفذ عند محمد خلافا لأبي يوسف .

[ ص: 212 ] وسئل محمد عن المرأة تقول لزوجها : أنت علي كظهر أمي ، قال : ليس بشيء ، لأن المرأة لا تملك التحريم كالطلاق . وسئل أبو يوسف فقال : عليها الكفارة ، لأن الظهار تحريم يرتفع بالكفارة وهي من أهل الكفارة فصح أن توجبها على نفسها . وسئل الحسن بن زياد فقال : هما شيخا الفقه أخطأا ، عليها كفارة يمين ، لأن الظهار يقتضي التحريم فكأنها قالت لزوجها : أنت علي حرام ، فيجب عليها كفارة يمين إذا وطئها .

( ولو قال : أنت علي مثل أمي أو كأمي ) فهو كناية يرجع إلى نيته ( فإن أراد الكرامة صدق ) لأن ذلك من محتملات كلامه وهو مشهور بين الناس ( وإن أراد الظهار فظهار ) لأنه شبهها بجميعها ، وفي ذلك تشبيه بالعضو المحرم فيصح عند نيته ، ( وإن أراد الطلاق فواحدة بائنة ) ويصير تشبيها لها في الحرمة كأنه قال : أنت علي حرام ( وإن لم يكن له نية فليس بشيء ) لأنه كناية يحتمل وجوها فلا يتعين أحدها إلا بمرجح . وقال محمد : هو ظهار لأنه تشبيه حقيقة والتشبيه بالعضو ظهار ، فالتشبيه بالكل أولى . وعن أبي يوسف إن كان في حالة الغضب فهو ظهار ، وإن عنى به التحريم فهو إيلاء إثباتا لأدنى الحرمتين . وعند محمد ظهار ، وقيل ظهار بالإجماع . وإن نوى الكذب قال محمد في نوادر هشام : يدين إلا أن يكون في حالة الغضب فهو يمين ، وإن قال : أنت علي حرام كأمي ونوى ظهارا فظهار للتشبيه ، وإن نوى طلاقا فطلاق للتحريم ، وإن نوى التحريم فظهار ، وإن لم يكن له نية فإيلاء . وعند محمد ظهار ، وقد مر وجهها .

( ولو قال لنسائه : أنتن علي كظهر أمي فعليه لكل واحدة كفارة ) لأنه يصير مظاهرا من كل واحدة منهن بإضافة الظهار إليهن ، كما إذا قال : أنتن طوالق تطلق كل واحدة منهن ، وإذا كان مظاهرا من كل واحدة منهن تثبت الحرمة في كل واحدة والكفارة لإنهاء الحرمة فتتعدد بتعدد الحرمة .

( وإن ظاهر منها مرارا في مجلس واحد أو في مجالس فعليه لكل ظهار كفارة ) كما في تكرار اليمين . وروى الحسن عن أبي حنيفة : إذا قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي مائة مرة وجبت عليه مائة كفارة وهو حالف مائة مرة .




الخدمات العلمية