الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثلة من الأولين وقليل من الآخرين اعتراض بين جملة في جنات النعيم وجملة على سرر موضونة .

و ثلة خبر عن مبتدأ محذوف ، تقديره : هم ثلة ، ومعاد الضمير المقدر السابقون ، أي السابقون ثلة من الأولين وقليل من الآخرين .

وهذا الاعتراض يقصد منه التنويه بصنف السابقين وتفضيلهم بطرق الكناية عن ذلك بلفظي ثلة و ( قليل ) المشعرين بأنهم قل من كثر ، فيستلزم ذلك أنهم صنف عزيز نفيس لما عهد في العرف من قلة الأشياء النفيسة وكقول السموأل وقيل غيره :

تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها : إن الكرام قليل

مع بشارة المسلمين بأن حظهم في هذا الصنف كحظ المؤمنين السالفين أصحاب الرسل لأن المسلمين كانوا قد سمعوا في القرآن وفي أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - تنويها بثبات المؤمنين السالفين مع الرسل ومجاهدتهم فربما خامر نفوسهم أن تلك صفة لا تنال بعدهم فبشرهم الله بأن لهم حظا منها مثل قوله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم إلى قوله وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وغيرها ، تلهيبا للمسلمين وإذكاء لهممهم في الأخذ بما يلحقهم بأمثال السابقين من الأولين فيستكثروا من تلك الأعمال . وفي الحديث لقد كان من قبلكم يوضع المنشار على أحدهم فينشر إلى عظمه لا يصده ذلك عن دينه .

والثلة : بضم الثاء لا غير : اسم للجماعة من الناس مطلقا قليلا كانوا أو [ ص: 290 ] كثيرا وهذا هو قول الفراء وأهل اللغة والراغب وصاحب لسان العرب وصاحب القاموس والزمخشري في الأساس ، وقال الزمخشري في الكشاف إن الثلة : الأمة الكثيرة من الناس ومحمله على أنه أراد به تفسير معناها في هذه الآية لا تفسير الكلمة في اللغة .

ولما في هذا الاعتراض من الإشعار بالعزة قدم على ذكر ما لهم من النعيم للإشارة إلى عظيم كيفيته المناسبة لوصفهم ب السابقون بخلاف ما يأتي في أصحاب اليمين .

ومعنى الأولين قوم متقدمون على غيرهم في الزمان لأن الأول هو الذي تقدم في صفة ما كالوجود أو الأحوال على غير الذي هو الآخر أو الثاني ، فالأولية أمر نسبي يبينه سياق الكلام حيثما وقع .

فالظاهر أن الأولين هنا مراد بهم الأمم السابقة قبل الإسلام بناء على ما تقدم من أن الخطاب في قولهوكنتم أزواجا ثلاثة خطاب لجميع الناس بعنوان أنهم ناس لأن المنقرضين الذين يتقدمون من أمة أو قبيلة أو أهل نحلة يدعون بالأولين كما قال الفرزدق :

ومهلهل الشعراء ذاك الأول

وقال تعالى أوآباؤنا الأولون الذين هم يخلفونهم ويكونون موجودين ، أو في تقدير الموجودين يدعون الآخرين .

وقد وصف أهل الإسلام بالآخرين في حديث فضل الجمعة نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا الحديث . وإذ قد وصف السابقون بما دل على أنهم أهل السبق إلى الخير ووصفت حالهم في القيامة عقب ذلك فقد علم أنهم أفضل الصالحين من أصحاب الأديان الإلهية ابتداء من عصر آدم إلى بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم الذين جاء فيهم قوله تعالى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .

فلا جرم أن المراد ب الأولين الأمم الأولى كلها ، وكان معظم تلك الأمم [ ص: 291 ] أهل عناد وكفر ولم يكن المؤمنون فيهم إلا قليلا كما تنبئ به آيات كثيرة من القرآن .

ووصف المؤمنون من بعض الأمم عند أقوامهم بالمستضعفين وبالأرذلين ، وبالأقلين .

ولا جرم أن المراد بالآخرين الأمة الأخيرة وهم المسلمون .

فالسابقون طائفتان طائفة من الأمم الماضين ومجموع عددها في ماضي القرون كثير مثل أصحاب موسى عليه السلام الذين رافقوه في التيه ، ومثل أصحاب أنبياء بني إسرائيل ، ومثل الحواريين ، وطائفة قليلة من الأمة الإسلامية وهم الذين أسرعوا للدخول في الإسلام وصحبوا النبيء - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، وإذ قد كانت هذه الآية نزلت قبل الهجرة فهي لا يتحقق مفادها إلا في المسلمين الذين بمكة .

و ( من ) تبعيضية كما هو بين ، فاقتضى أن السابقين في الأزمنة الماضية وزمان الإسلام حاضره ومستقبله بعض من كل ، والبعضية تقتضي القلة النسبية ولفظ ثلة مشعر بذلك ولفظ قليل صريح فيه .

وإنما قوبل لفظ ثلة بلفظ قليل للإشارة إلى أن الثلة أكثر منه . وعن الحسن أنه قال : سابقو من مضى أكثر من سابقينا .

وروي عن أبي هريرة أنه لما نزلت ثلة من الأولين وقليل من الآخرين شق ذلك على أصحاب النبيء - صلى الله عليه وسلم - وحزنوا وقالوا : إذن لا يكون من أمة محمد إلا قليل ، فنزلت نصف النهار ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فنسخت وقليل من الآخرين .

وهذا الحديث مشكل ومجمل فإن هنا قسمين مشتبهين ، والآية التي فيها وثلة من الآخرين ليست واردة في شأن السابقين فليس في الحديث دليل على [ ص: 292 ] أن عدد أهل مرتبة السابقين في الأمم الماضية مساو لعدد أهل تلك المرتبة في المسلمين ، وأن قول أبي هريرة فنسخت قليل من الآخرين يريد نسخت هذه الكلمة . فمراده أنها أبطلت أن يكون التفوق مطردا في عدد الصالحين فبقي التفوق في العدد خاصا بالسابقين من الفريقين دون الصالحين الذين هم أصحاب اليمين . والمتقدمون يطلقون النسخ على ما يشمل البيان فإن مورد آية ثلة من الأولين وثلة من الآخرين في شأن صنف أصحاب اليمين . ومورد الآية التي فيها وقليل من الآخرين هو صنف السابقين فلا يتصور معنى النسخ بالمعنى الاصطلاحي مع تغاير مورد الناسخ والمنسوخ ولكنه أريد به البيان وهو بيان بالمعنى الأعم .

التالي السابق


الخدمات العلمية