الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 322 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويدخل في الصوم بطلوع الفجر ويخرج منه بغروب الشمس ، لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغابت الشمس من ههنا فقد أفطر الصائم } ويجوز أن يأكل ويشرب ويباشر إلى طلوع الفجر ; لقوله تعالى : { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، ثم أتموا الصيام إلى الليل } فإن جامع قبل طلوع الفجر وأصبح وهو جنب جاز صومه لأنه عز وجل لما أذن في المباشرة إلى طلوع الفجر ثم أمر بالصوم دل على أنه يجوز أن يصبح صائما وهو جنب . وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم " { كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم } فإن طلع الفجر وفي فيه طعام فأكله ، أو كان مجامعا فاستدام بطل صومه ، وإن لفظ الطعام أو أخرج مع طلوع الفجر صح صومه وقال المزني : إذا أخرج مع طلوع الفجر لم يصح صومه ; لأن الجماع إيلاج وإخراج فإذا بطل بالإيلاج بطل بالإخراج والدليل على أنه يصح صومه أن الإخراج ترك للجماع ، وما علق على فعل شيء يتعلق بتركه ، كما لو حلف ألا يلبس هذا الثوب وهو عليه فبدأ ينزعه لم يحنث وإن أكل وهو يشك في طلوع الفجر صح صومه ; لأن الأصل بقاء الليل ، وإن أكل وهو شاك في غروب الشمس لم يصح صومه ; لأن الأصل بقاء النهار ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث عمر رضي الله عنه رواه البخاري ومسلم ، وليس فيه بعد الشمس " من ههنا " وإنما قال : { وغربت الشمس } ورواه البخاري ومسلم أيضا من رواية عبد الله بن أبي أوفى بمعناه فلفظ البخاري لابن أبي أوفى { إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم وأشار بيده قبل المشرق } ولفظ مسلم { إذا غابت الشمس من ههنا وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم } قال العلماء : إنما ذكر غروب الشمس وإقبال الليل وإدبار النهار [ ص: 323 ] ليبين أن غروبها عن العيون لا يكفي ، لأنها قد تغيب في بعض الأماكن عن العيون ولا تكون غربت حقيقة ، فلا بد من إقبال الليل وإدبار النهار ، وأما حديث عائشة رضي الله عنها فرواه البخاري ومسلم أيضا من روايتهما ، ومن رواية أم سلمة أيضا ، وقولها : { من جماع غير احتلام } ذكرت الجماع ; لئلا يتوهم أحد أنه كان من احتلام ، وإن المحتلم معذور لكونه قد يدركه الصبح وهو نائم محتلم ، بخلاف المجامع فبينت أن تلك الجنابة من جماع ، ثم أكدته لشدة الاعتناء ببيانه ، فقالت : غير احتلام ، وقد ذكرنا في باب الغسل اختلاف العلماء هل كان الاحتلام متصورا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقد يحتج من صوره بمفهوم هذا الحديث ، ويجيب الآخر بأنها ذكرته للتوكيد لا للاحتراز ، والله أعلم .

                                      وقول المصنف : لأنه لما أذن في المباشرة ، يقال بفتح همزة أذن وضمها ، والفتح أجود ، وقوله : " لفظ الطعام " هو بفتح الفاء ، وإنما ذكرته لأني رأيت من يصحفه ، ( أما أحكام الفصل ) ففيه مسائل ( إحداها ) ينقضي الصوم ويتم بغروب الشمس بإجماع المسلمين لهذين الحديثين ، وسبق بيان حقيقة غروبها في باب مواقيت الصلاة ، قال أصحابنا : ويجب إمساك جزء من الليل بعد الغروب ; ليتحقق به استكمال النهار ، وقد ذكر المصنف هذا في كتاب الطهارة في مسألة القلتين .

                                      ( الثانية ) يدخل في الصوم بطلوع الفجر الثاني وهو الفجر الصادق ، وسبق بيانه وتحقيق صفته في باب مواقيت الصلاة ، ويصير متلبسا بالصوم بأول طلوع الفجر ، والمراد الطلوع الذي يظهر لنا لا الذي في نفس الأمر ، قال أصحابنا : وقد يطلع الفجر في بعض البلاد ويتبين قبل أن يطلع في بلد آخر ، فيعتبر في كل بلد طلوع فجره ، قال الماوردي : وكذا غروب شمسه ، وقد سبق بيان هذا في كلام الماوردي في هذا الباب في مسألة رؤية الهلال في بلد دون بلد ، وقد سبق في باب مواقيت الصلاة أن الأحكام المتعلقة بالفجر تتعلق كلها بالفجر الثاني ، ولا يتعلق بالفجر الأول الكاذب شيء من الأحكام بإجماع المسلمين ، وسبق هناك بيان دلائله والأحاديث الصحيحة فيه .

                                      [ ص: 324 ] فرع ) هذا الذي ذكرناه من الدخول في الصوم بطلوع الفجر وتحريم الطعام والشراب والجماع به هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم . قال ابن المنذر وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعلماء الأمصار ، قال : وبه نقول ، قال : روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال حين صلى الفجر : الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، قال : وروي عن حذيفة " أنه لما طلع الفجر تسحر ثم صلى " قال : وروي معناه عن ابن مسعود ، وقال مسروق : لم يكونوا يعدون الفجر فجركم ، إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق ، قال : وكان إسحاق يميل إلى القول الأول من غير أن يطعن على الآخرين ، قال إسحاق : ولا قضاء على من أكل في الوقت الذي قاله هؤلاء هذا كلام ابن المنذر ، وحكى أصحابنا عن الأعمش وإسحاق بن راهويه أنهما جوزا الأكل وغيره إلى طلوع الشمس ، ولا أظنه يصح عنهما ، واحتج أصحابنا والجمهور على هؤلاء بالأحاديث الصحيحة المشهورة المتظاهرة .

                                      منها حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : { لما نزلت { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } قلت : يا رسول الله ، إني أجعل تحت وسادتي عقالين ، عقالا أبيض وعقالا أسود أعرف الليل من النهار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار } رواه البخاري ومسلم .

                                      وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال : { لما أنزلت { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } ولم ينزل { من الفجر } فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله تعالى : { من الفجر } فعلموا أنه يعني به الليل من النهار } رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية مسلم ( رئيهما ) بالراء مهموز .

                                      وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير } رواه مسلم .

                                      [ ص: 325 ] وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يمنعن أحدكم - أو أحدا منكم - أذان بلال من سحوره ، فإنه يؤذن - أو ينادي - بليل ليرجع قائمكم ، ولينبه نائمكم ، وليس أن يقول : الفجر أو الصبح ، وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول : هكذا ، وقال بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى ثم مدهما عن يمينه وشماله } رواه البخاري ، وسبق [ في ] باب مواقيت الصلاة غير هذه الأحاديث ، والله أعلم .



                                      ( المسألة الثالثة ) يجوز له الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر بلا خلاف ; لما ذكره المصنف ، ولو شك في طلوع الفجر جاز له الأكل والشرب والجماع وغيرها بلا خلاف ، حتى يتحقق الفجر للآية الكريمة { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض } ولما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : " كل ما شككت حتى يتبين لك " رواه البيهقي بإسناد صحيح ، وفي رواية عن حبيب بن أبي ثابت قال : " أرسل ابن عباس رجلين ينظران الفجر ، فقال أحدهما : أصبحت وقال الآخر : لا ، قال : اختلفتما أرني شرابي " قال البيهقي : وروي هذا عن أبي بكر الصديق وعمر وابن عمر رضي الله عنهم ، وقول ابن عباس : " أرني شرابي " جار على القاعدة أنه يحل الشرب والأكل حتى يتبين الفجر ، ولو كان قد تبين لما اختلفا الرجلان فيه ، لأن خبريهما تعارضا والأصل بقاء الليل ، ولأن قوله : " أصبحت " ليس صريحا في طلوع الفجر ، فقد تطلق هذه اللفظة لمقاربة الفجر ، والله أعلم ، وقد اتفق أصحابنا على جواز الأكل للشاك في طلوع الفجر ، وصرحوا بذلك فممن صرح به الماوردي والدارمي والبندنيجي وخلائق لا يحصون ، ( وأما ) قول الغزالي في الوسيط : لا يجوز الأكل هجوما في أول النهار ، وقول المتولي في مسألة السحور : لا يجوز للشاك في طلوع الفجر أن يتسحر ، فلعلهما أرادا بقولهما ( لا يجوز ) أنه ليس مباحا مستوي الطرفين ، بل الأولى تركه فإن أراد به تحريم الأكل على الشاك في طلوع الفجر فهو غلط مخالف للقرآن ، ولابن عباس : ولجميع الأصحاب ، بل لجماهير العلماء ، ولا نعرف أحدا من العلماء قال بتحريمه إلا مالكا فإنه حرمه ، وأوجب القضاء على من أكل شاكا [ ص: 326 ] في الفجر ، وذكر ابن المنذر في الأشراف بابا في إباحة الأكل للشاك في الفجر ، فحكاه عن أبي بكر الصديق وابن عمر وابن عباس وعطاء والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور واختاره ولم ينقل المنع إلا عن مالك ، والله أعلم . قال الماوردي وغيره : والأفضل للشاك أن لا يأكل ولا يفعل غيره من ممنوعات الصوم احتياطا .



                                      . ( الرابعة ) لو أكل شاكا في طلوع الفجر ، ودام الشك ولم يبن الحال بعد ذلك ، صح صومه بلا خلاف عندنا ، ولا قضاء عليه ، وقال مالك : عليه القضاء ، وقد سبقت أدلة المسألة في المسألة التي قبلها ، قال أصحابنا : وينبغي للصائم ألا يأكل حتى يتيقن غروب الشمس ، فلو غلب على ظنه غروبها باجتهاد يورد أو غيره جاز له الأكل على الصحيح الذي قطع به الأكثرون وحكى إمام الحرمين وغيره وجها للأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أنه لا يجوز لقدرته على اليقين بصبر يسير ، ولو أكل ظانا غروب الشمس فبانت طالعة ، أو ظانا أن الفجر لم يطلع فبان طالعا ، صار مفطرا ، هذا هو الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به المصنف والجمهور ، وفيه وجه شاذ أنه لا يفطر فيهما ، لأنه معذور ، وهو مخرج من الخلاف فيمن غلط في القبلة ، ومن الأسير إذا اجتهد في الصوم وصادف ما قبل رمضان ، ونظائره ، وهذا الوجه هو قول المزني وابن خزيمة من أصحابنا ، وفيه وجه ثالث أنه يفطر في الصورة الأولى دون الثانية لتقصيره في الأولى ، ولأنه لا يجوز الأكل للشاك في الصورة الأولى ويجوز في الثانية .

                                      وممن حكى هذا الوجه الرافعي ، ولو هجم على الأكل في طرفي النهار بلا ظن ، وتبين الخطأ فحكمه ما ذكرنا ، وإن بان التيقن أنه لم يأكل في النهار استمرت صحة صومه ، وإن دام الإبهام ولم يظهر الخطأ ولا الصواب فإن كان في أول النهار فلا قضاء ، لأن الأصل بقاء الليل ، وإن كان في آخره لزمه القضاء ، لأن الأصل بقاء النهار ولو أكل في آخر النهار بالاجتهاد ، وقلنا بالمذهب : أنه يجوز فاستمر الإبهام فلا قضاء ، وإن قلنا بقول الأستاذ أبي إسحاق : إنه لا يجوز لزمه القضاء ، كما لو أكل بغير اجتهاد ; لأن الاجتهاد عنده لا أثر له . قال المتولي وغيره : والفرق بين من أكل بغير اجتهاد في آخر النهار وصادف أكله الليل - حيث قلنا : لا قضاء عليه - وبين من [ ص: 327 ] اشتبهت عليه القبلة ، أو وقت الصلاة فصلى بغير اجتهاد وصادف الصواب ، فإن عليه الإعادة ، لأن هناك شرع في العبادة شاكا من غير مستند شرعي فلم يصح ، وهنا لم يحصل الشك في ابتداء العبادة ، بل مضت على الصحة وشك بعد فراغها ، هل وجد مفسد لها بعد تحقق الدخول فيها ؟ وقد بان أن لا مفسد ، وإنما نظيره من الصلاة أن يسلم منها ثم يشك هل ترك ركنا منها أم لا ؟ ثم بان أنه لم يترك شيئا ، فإن صلاته صحيحة بلا خلاف ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) لو ظن غروب الشمس فجامع ، فبان خلافه ، لزمه قضاء الصوم على المذهب كما سبق ، قال البغوي والمتولي وآخرون من الأصحاب : ولا كفارة عليه ; لأنه معذور ولأنها إنما تجب على من أفسد الصوم بجماع أثم به ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى . قال الرافعي : وهذا ينبغي أن يكون تفريعا على المذهب وهو جواز الإفطار بالظن ، وإلا فتجب الكفارة وفاء بالضابط المذكور لوجوبها .



                                      ( المسألة الخامسة ) إذا جامع في الليل وأصبح وهو جنب صح صومه بلا خلاف عندنا ، وكذا لو انقطع دم الحائض والنفساء في الليل فنوتا صوم الغد ولم يغتسلا صح صومهما بلا خلاف عندنا ، وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وممن قال به علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبو ذر وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وابن عباس وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم ، وجماهير التابعين والثوري ومالك وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور ، قال العبدري : وهو قول سائر الفقهاء ، قال ابن المنذر : وقال سالم بن عبد الله : لا يصح صومه ، قال : وهو الأشهر عن أبي هريرة والحسن البصري ، وعن طاوس وعروة بن الزبير رواية عن أبي هريرة أنه إن علم جنابته قبل الفجر ثم نام حتى أصبح لم يصح وإلا فيصح ، وقال النخعي : يصح النفل دون الفرض ، وعن الأوزاعي أنه لا يصح صوم منقطعة الحيض حتى تغتسل ، احتجوا بحديث { من أصبح جنبا فلا صوم له } رواه أبو هريرة في صحيحي البخاري ومسلم ، دليلنا نص القرآن قال الله تعالى { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من [ ص: 328 ] الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } ويلزم بالضرورة أن يصبح جنبا إذا باشر إلى طلوع الفجر .

                                      والأحاديث الصحيحة المشهورة منها حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم } رواه البخاري ومسلم ، وفي روايات لهما في الصحيح { من جماع غير احتلام } وعن عائشة رضي الله عنها قالت : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم } رواه البخاري ومسلم ، وعنها : { أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب فقال : يا رسول الله ، تدركني الصلاة وأنا جنب أفأصوم ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ، فقال : لست مثلنا يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال : والله إني لأرجوا أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي } رواه مسلم ، والأحاديث بمعنى هذا كثيرة مشهورة ، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فأجاب أصحابنا عنه بجوابين ( أحدهما ) أنه منسوخ ، قال البيهقي : روينا عن أبي بكر بن المنذر قال : أحسن ما سمعت فيه أنه منسوخ ، لأن الجماع كان في أول الإسلام محرما على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب ، فلما أباح الله تعالى الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل الاغتسال أن يصوم ، فكان أبو هريرة يفتي بما يسمعه من الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم على الأمر الأول ولم يعلم النسخ ، فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما رجع إليه . هذا كلام البيهقي عن ابن المنذر وكذا قال إمام الحرمين في النهاية ، قال : قال العلماء : الوجه حمل حديث أبي هريرة رضي الله عنه على أنه منسوخ ، ( والجواب الثاني ) أنه محمول على من طلع الفجر وهو مجامع ، فاستدام مع علمه بالفجر ، والله تعالى أعلم ، قال الماوردي وغيره : وأجمعت الأمة على أنه إن احتلم في الليل وأمكنه الاغتسال قبل الفجر فلم يغتسل وأصبح جنبا بالاحتلام أو احتلم في النهار [ ص: 329 ] فصومه صحيح ، وإنما الخلاف في صوم الجنب بالجماع ، والله تعالى أعلم .



                                      ( السادسة ) إذا طلع الفجر وفي فيه طعام فليلفظه ، فإن لفظه صح صومه ، فإن ابتلعه أفطر ، فلو لفظه في الحال فسبق منه شيء إلى جوفه بغير اختياره فوجهان مخرجان من سبق الماء في المضمضة ، لكن الأصح هنا أنه لا يفطر ، والأصح في المضمضة أنه إن بالغ أفطر ، وإلا فلا ، ولو طلع الفجر ، وهو مجامع فنزع في الحال صح صومه ، نص عليه في المختصر قال أصحابنا : للنزع عند الفجر ثلاث صور ( إحداها ) أن يحس بالفجر وهو مجامع فينزع بحيث يقع آخر النزع مع أول الطلوع ( والثانية ) يطلع الفجر وهو مجامع فيعلم الطلوع في أوله فينزع في الحال ( الثالثة ) أن يمضي بعد الطلوع لحظة وهو مجامع لا يعلم الفجر ثم يعلمه فينزع . أما الثالثة فليست مرادة بنص الشافعي رضي الله عنه بل الحكم فيها بطلان الصوم على المذهب ، وفيها الوجه السابق فيمن أكل ظانا أن الفجر لم يطلع وكان قد طلع ، فعلى المذهب لو مكث بعد علمه أثم ولا كفارة عليه ; لأنه إنما مكث بعد بطلان الصوم ، وعلى الوجه الضعيف تلزمه الكفارة بالاستدامة كما سنوضحه إن شاء الله تعالى .

                                      وأما الصورتان الأولتان فهما مرادتان بالنص فلا يبطل الصوم فيهما ، وفي الثانية وجه ضعيف شاذ أنه يبطل ، وهو مذهب المزني أيضا كما حكاه المصنف ، وقد ذكر المصنف دليل الجميع ، أما إذا طلع الفجر وهو مجامع فعلم طلوعه ، ثم مكث مستديما للجماع فيبطل صومه بلا خلاف ، نص عليه وتابعه الأصحاب ، ولا يعلم فيه خلاف للعلماء وتلزمه الكفارة على المذهب ، وقيل : فيه قولان ، وستأتي المسألة مبسوطة حيث ذكرها المصنف إن شاء الله تعالى ، ولو جامع ناسيا ثم تذكر فاستدام فهو كالاستدامة بعد العلم بالفجر ، والله تعالى أعلم . فإن قيل : كيف يعلم الفجر بمجرد طلوعه ؟ وطلوعه الحقيقي [ ص: 330 ] يتقدم على علمنا به فأجاب الشيخ أبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين بجوابين ( أحدهما ) أنها مسألة علمية ولا يلزم وقوعها ، كما يقال في الفرائض : مائة جدة ( والثاني ) وهو الصواب الذي لا يجوز غيره أن هذا متصور ، لأنا إنما تعبدنا بما نطلع عليه ، لا بما في نفس الأمر ، فلا معنى للصبح إلا ظهور الضوء للناظر ، وما قبله لا حكم له ، ولا يتعلق به تكليف ، فإذا كان الإنسان عارفا بالأوقات ومنازل القمر فيرصد بحيث لا حائل فهو أول الصبح المعتبر فهذا هو الصواب ، وبه قطع المتولي والجمهور ، والله أعلم .



                                      فرع في مذاهب العلماء في مسائل تقدمت منها إذا أكل أو شرب أو جامع ظانا غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر فبان خلافه ، فقد ذكرنا أن عليه القضاء ، وبه قال ابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان وعطاء وسعيد بن جبير ومجاهد والزهري والثوري ، كذا حكاه ابن المنذر عنهم ، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وأبو ثور والجمهور ، وقال إسحاق بن راهويه وداود : صومه صحيح ولا قضاء وحكى ذلك عن عطاء وعروة بن الزبير والحسن البصري ومجاهد ، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : { إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } . رواه البيهقي في غير هذا الباب بأسانيد صحيحة من رواية ابن عباس ،

                                      واحتج أصحابنا بقوله تبارك وتعالى : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ ص: 331 ] وهذا قد أكل في النهار ، وبما رواه البيهقي بإسناده عن ابن مسعود : " أنه سئل عن رجل تسحر وهو يرى أن عليه ليلا وقد طلع الفجر فقال : من أكل من أول النهار فليأكل من آخره ، ومعناه فقد أفطر " وروى البيهقي معناه عن أبي سعيد الخدري وبحديث هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت : { أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس ، قيل لهشام : فأمروا بالقضاء فقال : لا بد من قضاء } رواه البخاري في صحيحه ، وروى الشافعي عن مالك بن أنس الإمام ، عن زيد بن أسلم عن أخيه خالد بن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " أفطر في رمضان في يوم ذي غيم ، ورأى أنه قد أمسى وغابت الشمس فجاءه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، قد طلعت الشمس ، فقال عمر رضي الله عنه : الخطب يسير وقد اجتهدنا " قال البيهقي : قال مالك والشافعي : معنى ( الخطب يسير ) قضاء يوم مكانه ، قال البيهقي : رواه سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن أخيه عن أبيه عن عمر رضي الله عنه قال : وروي أيضا من وجهين آخرين عن عمر مفسرا في القضاء ، ثم ذكره البيهقي بأسانيده عن عمر رضي الله عنه وفيه التصريح بالقضاء .

                                      فأحد الوجهين عن علي بن حنظلة عن أبيه ، وكان أبوه صديقا لعمر ، قال : " كنت عند عمر رضي الله عنه في رمضان فأفطر وأفطر الناس ، فصعد المؤذن ليؤذن فقال : أيها الناس هذه الشمس لم تغرب ، فقال عمر رضي الله عنه : من كان أفطر فليصم يوما مكانه " وفي الرواية الأخرى فقال عمر : لا نبالي ، والله نقضي يوما مكانه ، ثم قال البيهقي : وفي تظاهر هذه الروايات عن عمر رضي الله عنه في القضاء ، دليل على خطأ رواية زيد بن وهب في ترك القضاء ، ثم روى البيهقي ذلك بإسناده عن يعقوب بن سفيان الحافظ ، عن عبيد الله بن موسى عن شيبان عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن زيد بن وهب قال : " بينما نحن جلوس في مسجد المدينة في رمضان والسماء متغيمة ، فرأينا أن الشمس قد غابت وأنا قد أمسينا ، فأخرجت لنا عساس من لبن من بيت حفصة فشرب عمر رضي الله عنه وشربنا ، فلم نلبث أن ذهب السحاب وبدت الشمس فجعل بعضنا يقول لبعض : نقضي يومنا [ ص: 332 ] هذا ، فسمع بذلك عمر فقال : والله لا نقضيه ، وما يجانفنا الإثم " قال البيهقي : كذا رواه شيبان ورواه حفص بن عتاب وأبو معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب . قال البيهقي : وكان يقول ابن سفيان يحمل على زيد بن وهب بهذه الرواية المخالفة للروايات المتقدمة وبعدها مما خولف فيه . قال البيهقي : " وزيد ثقة إلا أن الخطأ غير مأمون " والله تعالى يعصمنا من الزلل والخطأ بمنه وسعة رحمته ،

                                      ثم روى البيهقي بإسناده عن شعيب بن عمرو بن سليم الأنصاري قال : " أفطرنا مع صهيب الخير في شهر رمضان في يوم غيم وطش فبينا نحن نتعشى إذ طلعت الشمس ، فقال صهيب : طعمة الله أتموا صيامكم إلى الليل واقضوا يوما مكانه " . قوله " عساس من لبن " بكسر العين وبسين مهملة مكررة ، وهي الأقداح ، و ( أحدها ) عس بضم العين ، وأجاب أصحابنا عن حديث { إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ } أنه هنا محمول على رفع الإثم فإنه عام خص منه غرامات المتلفات وانتقاض الوضوء بخروج الحدث سهوا ، والصلاة بالحدث ناسيا وأشباه ذلك ، فيخص هنا بما ذكرناه ، والله تعالى أعلم .



                                      فرع في مذاهبهم فيمن أولج ثم نزع مع طلوع الفجر ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يفطر ولا قضاء ولا كفارة ، وبه قال أبو حنيفة وآخرون ، وقال مالك والمزني وزفر وداود : يبطل صومه ، وعن أحمد رواية أنه يفطر وعليه الكفارة وفي رواية : يصح صومه ولا قضاء ولا كفارة ، وقد سبق في كلام المصنف دليل المذهبين ، وروى البيهقي بإسناده الصحيح عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما : " كان إذا نودي بالصلاة والرجل على امرأته لم يمنعه ذلك أن يصوم إذا أراد الصيام قام واغتسل وأتم صيامه " .



                                      [ ص: 333 ] ( فرع ) ذكرنا أن من طلع الفجر وفي فيه طعام فليلفظه ويتم صومه ، فإن ابتلعه بعد علمه بالفجر بطل صومه ، وهذا لا خلاف فيه ، ودليله حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن بلالا يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم } رواه البخاري ومسلم ، وفي الصحيح أحاديث بمعناه ، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده ، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه } وفي رواية { وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر } فروى الحاكم أبو عبد الله الرواية الأولى ، وقال : هذا صحيح على شرط مسلم ، ورواهما البيهقي ثم قال : وهذا إن صح محمول عند عوام أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم علم أنه ينادى قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر قال : وقوله : ( إذا بزغ ) يحتمل أن يكون من كلام من دون أبي هريرة أو يكون خبرا من الأذان الثاني ، ويكون قول النبي صلى الله عليه وسلم { إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده } خبرا عن النداء الأول ليكون موافقا لحديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم قال : وعلى هذا تتفق الأخبار وبالله التوفيق ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية