الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قل يا أهل الكتاب نزلت في وفد نصارى نجران، قاله السدي والحسن وابن زيد ومحمد بن جعفر بن الزبير، وروي عن قتادة والربيع وابن جريج: أنها نزلت في يهود المدينة، وذهب أبو علي الجبائي أنها نزلت في الفريقين من أهل الكتاب، واستظهره بعض المحققين لعمومه تعالوا أي هلموا إلى كلمة أي كلام، كما قال الزجاج، وإطلاقها على ذلك في كلامهم من باب المجاز المرسل، وعلاقته تجوز إطلاقها على المركب الناقص إلا أنه لم يوجد بالاستقراء، وقيل: إنه من باب الاستعارة وليس بالبعيد وقرئ (كلمة) بكسر الكاف وإسكان اللام على التخفيف والنقل سواء أي عدل، قاله ابن عباس والربيع وقتادة، وقيل: إن سواء مصدر بمعنى مستوية، أي لا يختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن، أو لا اختلاف فيها بكل الشرائع، وهو في قراءة الجمهور مجرور على أنه نعت ل (كلمة) وقرئ بنصبه على المصدر.

                                                                                                                                                                                                                                      بيننا وبينكم متعلق بسواء ألا نعبد أي نحن وأنتم إلا الله بأن نوحده بالعبادة ونخلص فيها، وفي موضع (أن) وما بعدها وجهان، كما قال أبو البقاء، الأول: الجر على البدلية من كلمة ، والثاني: الرفع على الخبرية لمحذوف، أي هي أن لا نعبد إلا الله، ولولا عمل (أن) لجاز أن تكون تفسيرية، وقيل: إن الكلام تم على سواء ثم استؤنف فقيل: بيننا وبينكم ألا نعبد ، فالظرف خبر مقدم، و (أن) وما بعدها مبتدأ مؤخر ولا نشرك به شيئا من الأشياء على معنى لا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد، وبهذا المعنى يكون الكلام تأسيسا، والظاهر أنه تأكيد لما قبله إلا أن التأسيس أكثر فائدة، وقيل: المراد لا نشرك به شيئا من الشرك وهو بعيد جدا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله أي لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله تعالى، قاله ابن جريج، ويؤيده ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عدي بن حاتم: " أنه لما نزلت هذه الآية قال: ما كنا نعبدهم يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: أما كانوا يحللون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم، فقال عليه الصلاة والسلام: هو ذاك "، قيل: وإلى هذا أشار سبحانه بقوله عز من قائل: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، وعن عكرمة أن هذا الاتخاذ هو سجود بعضهم لبعض، وقيل: هو مثل اعتقاد اليهود في عزير أنه ابن الله، واعتقاد النصارى في المسيح نحو ذلك، وضمير نا على كل تقدير للناس لا للممكن وإن أمكن حتى يشمل الأصنام لأن أهل الكتاب لم يعبدوها.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي التعبير بالبعض نكتة وهي الإشارة إلى أنهم بعض من جنسنا فكيف يكونون أربابا؟! فإن قلت: إن المخاطبين لم يتخذوا البعض أربابا من دون الله بل اتخذوهم آلهة معه سبحانه، أجيب: بأنه أريد من دون الله وحده، أو يقال: بأنه أتى بذلك للتنبيه على أن الشرك لا يجامع الاعتراف بربوبيته تعالى عقلا، قاله بعضهم، وللنصارى -سود الله تعالى حظهم- الحظ الأوفر من هذه المنهيات، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان فرقهم وتفصيل كفرهم على أتم وجه.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [ 64 ] المراد فإن تولوا عن موافقتكم فيما ذكر مما اتفق عليه الكتب والرسل بعد عرضه عليهم، فاعلموا أنهم لزمتهم الحجة وإنما أبوا عنادا فقولوا [ ص: 194 ] لهم: أنصفوا واعترفوا بأنا على الدين الحق، وهو تعجيز لهم أو هو تعريض بهم، لأنهم إذا شهدوا بالإسلام لهم فكأنهم قالوا: إنا لسنا كذلك، وإلى هذا ذهب بعض المحققين، وقيل: المراد فإن تولوا فقولوا: إنا لا نتحاشى عن الإسلام ولا نبالي بأحد في هذا الأمر فاشهدوا بأنا مسلمون فإنا لا نخفي إسلامنا كما أنكم تخافون وتخفون كفركم ولا تعترفون به لعدم وثوقكم بنصر الله تعالى، ولا يخفى أن هذا على ما فيه إنما يحسن لو كان الكلام في منافقي أهل الكتاب لأن المنافقين هم الذين يخافون فيخفون، وأما هؤلاء فهم معترفون بما هم عليه كيف كان فلا يحسن هذا الكلام فيهم، و تولوا هنا ماض، ولا يجوز أن يكون التقدير تتولوا لفساد المعنى لأن فقولوا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، (وتتولوا) خطاب للمشركين، وعند ذلك لا يبقى في الكلام جواب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية