الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ولاء الموالاة قال الله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم روى طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال : كان المهاجر يرث الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى الله بينهم ، فلما نزلت ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون نسخت ؛ ثم قرأ : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال : من النصر والرفادة ، ويوصي له ، وقد ذهب الميراث .

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال : كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر ، فأنزل الله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا يقول : إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا لهم وصية ، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت ، فذلك المعروف .

وروى أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيموت فيرثه ، فعاقد أبو بكر رجلا فمات فورثه . وقال سعيد بن المسيب : هذا في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم ، فأنزل الله فيهم أن يجعل لهم من الوصية ، ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة .

قال أبو بكر : قد ثبت بما قدمنا من قول السلف أن ذلك كان حكما ثابتا في الإسلام ، وهو الميراث بالمعاقدة والموالاة ؛ ثم قال قائلون : إنه منسوخ بقوله : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله

وقال آخرون : ليس بمنسوخ من الأصل ، ولكنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة ، فنسخ ميراثهم في حال وجود القرابات وهو باق لهم إذا فقد الأقرباء على الأصل الذي كان عليه . واختلف الفقهاء في ميراث موالي الموالاة ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر : " من أسلم على يدي رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له [ ص: 146 ] غيره فميراثه له " .

وقال مالك وابن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي : " ميراثه للمسلمين " . وقال يحيى بن سعيد : " إذا جاء من أرض العدو فأسلم على يده فإن ولاءه لمن والاه ، ومن أسلم من أهل الذمة على يدي رجل من المسلمين فولاؤه للمسلمين عامة " .

وقال الليث بن سعد : " من أسلم على يدي رجل فقد والاه وميراثه للذي أسلم على يده إذا لم يدع وارثا غيره " قال أبو بكر : الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده على الوجه الذي ذهب إليه أصحابنا ؛ لأنه كان حكما ثابتا في أول الإسلام ، وحكم الله به في نص التنزيل ، ثم قال : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين فجعل ذوي الأرحام أولى من المعاقدين الموالي ، فمتى فقد ذوو الأرحام وجب ميراثهم بقضية الآية ؛ إذ كانت إنما نقلت ما كان لهم إلى ذوي الأرحام إذا وجدوا ، فإذا لم يوجدوا فليس في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخها ، فهي ثابتة الحكم مستعملة على ما تقتضيه من إثبات الميراث عند فقد ذوي الأرحام .

وقد ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم بثبوت هذا الحكم وبقائه عند عدم ذوي الأرحام ، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا يزيد بن خالد الرملي وهشام بن عمار الدمشقي قالا : حدثنا يحيى بن حمزة عن عبد العزيز بن عمر قال : سمعت عبد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد العزيز عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري أنه قال : يا رسول الله ما السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين ؟ قال : هو أولى الناس بمحياه ومماته ، فقوله : هو أولى الناس بمماته يقتضي أن يكون أولاهم بميراثه ؛ إذ ليس بعد الموت بينهما ولاية إلا في الميراث ، وهو في معنى قوله تعالى : ولكل جعلنا موالي يعني ورثة . وقد روي نحو قول أصحابنا في ذلك عن عمر وابن مسعود والحسن وإبراهيم .

وروى معمر عن الزهري أنه سئل عن رجل أسلم فوالى رجلا هل بذلك بأس ؟ قال : لا بأس به ، قد أجاز ذلك عمر بن الخطاب .

وروى قتادة عن سعيد بن المسيب قال : " من أسلم على يدي قوم ضمنوا جرائره وحل لهم ميراثه " . وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : " إذا أسلم الكافر على يدي رجل مسلم بأرض العدو أو بأرض المسلمين فميراثه للذي أسلم على يديه " .

وقد روى أبو عاصم النبيل عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال : كتب النبي صلى الله عليه وسلم : على كل بطن عقوله وقال : لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم ، وقد حوى هذا الخبر معنيين :

أحدهما : جواز الموالاة ؛ لأنه قال : إلا بإذنهم فأجاز الموالاة بإذنهم .

[ ص: 147 ] والثاني : أن له أن يتحول بولاية إلى غيره ، إلا أنه كرهه إلا بإذن الأولين ؛ ولا يجوز أن يكون مراده عليه السلام في ذلك إلا في ولاء الموالاة ؛ لأنه لا خلاف أن ولاء العتاقة لا يصح النقل عنه ؛ وقال صلى الله عليه وسلم : الولاء لحمة كلحمة النسب . فإن احتج محتج بما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا محمد بن بشر وابن نمير وأبو أسامة عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة قال : فهذا يوجب بطلان حلف الإسلام ومنع التوارث به .

قيل له : يحتمل أن يريد به نفي الحلف في الإسلام على الوجه الذي كانوا يتحالفون عليه في الجاهلية وذلك ؛ لأن حلف الجاهلية كان على أن يعاقده فيقول : " هدمي هدمك ودمي دمك وترثني وأرثك " وكان في هذا الحلف أشياء قد حظرها الإسلام ، وهو أنه كان يشرط أن يحامي عليه ويبذل دمه دونه ويهدم ما يهدمه فينصره على الحق والباطل ؛ وقد أبطلت الشريعة هذا الحلف وأوجبت معونة المظلوم على الظالم حتى يتنصف منه وأن لا يلتفت إلى قرابة ولا غيرها .

قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا فأمر الله تعالى بالعدل والقسط في الأجانب والأقارب وأمر بالتسوية بين الجميع في حكم الله تعالى ، فأبطل ما كان عليه أمر الجاهلية من معونة القريب والحليف على غيره ظالما كان أو مظلوما .

وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا : يا رسول الله هذا يعينه مظلوما فكيف يعينه ظالما ؟ قال : أن ترده عن الظلم فذلك معونة منك له . وكان في حلف الجاهلية أن يرثه الحليف دون أقربائه فنفى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : لا حلف في الإسلام التحالف على النصرة والمحاماة من غير نظر في دين أو حكم وأمر باتباع أحكام الشريعة دون ما يعقده الحليف على نفسه ، ونفى أيضا أن يكون الحليف أولى بالميراث من الأقارب ؛ فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : لا حلف في الإسلام .

وأما قوله : وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة فإنه يحتمل أن الإسلام قد زاده شدة وتغليظا في المنع منه وإبطاله ، فكأنه قال : إذا لم يجز الحلف في الإسلام مع ما فيه من تناصر المسلمين وتعاونهم فحلف الجاهلية أبعد من ذلك .

قال أبو بكر : وعلى نحو ما ذكرنا من التوارث بالموالاة قال أصحابنا [ ص: 148 ] فيمن أوصى بجميع ماله ولا وارث له إنه جائز ، وقد بينا ذلك فيما سلف وذلك ؛ لأنه لما جاز له أن يجعل ميراثه لغيره بعقد الموالاة ويزويه عن بيت المال ، جاز له أن يجعله لمن شاء بعد موته بالوصية ؛ إذ كانت الموالاة إنما تثبت بينهما بعقده وإيجابه وله أن ينتقل بولائه ما لم يعقل عنه ، فأشبهت الوصية التي تثبت بقوله وإيجابه ومتى شاء رجع فيها ؛ إلا أنها تخالف الوصية من وجه ، وهو أنه وإن كان يأخذه بقوله فإنه يأخذه على وجه الميراث ألا ترى أنه لو ترك الميت ذا رحم كان أولى بالميراث من مولى الموالاة ؟ ولم يكن في الثلث بمنزلة من أوصى لرجل بماله فيجوز له منه الثلث بل لا يعطى شيئا إذا كان له وارث من قرابة أو ولاء عتاقة ، فولاء الموالاة يشبه الوصية بالمال من وجه إذا لم يكن له وارث ، ويفارقها من وجه على نحو ما بينا والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية