الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 4575 ) الفصل الثالث : أنه إذا لم تكن به بينة ، أو تعارضت به بينتان ، وسقطتا ، فإنا نريه القافة معهما ، أو مع عصبتهما عند فقدهما ، فنلحقه بمن ألحقته به منهما . هذا قول أنس ، وعطاء ، ويزيد بن عبد الملك ، [ ص: 46 ] والأوزاعي ، والليث ، والشافعي ، وأبي ثور . وقال أصحاب الرأي : لا حكم للقافة ، ويلحق بالمدعيين جميعا ; لأن الحكم بالقافة تعويل على مجرد الشبه والظن والتخمين ، فإن الشبه يوجد بين الأجانب ، وينتفي بين الأقارب ، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن رجلا أتاه ، فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي ولدت غلاما أسود ، فقال : هل لك من إبل ؟ قال : نعم . قال : فما ألوانها ؟ . قال : حمر . قال : فهل فيها من أورق ؟ قال : نعم . قال : أنى أتاها ذلك ؟ قال : لعل عرقا نزع . قال : وهذا لعل عرقا نزع } . متفق عليه . قالوا : ولو كان الشبه كافيا لاكتفي به في ولد الملاعنة ، وفيما إذا أقر أحد الورثة بأخ وأنكره الباقون . ولنا ما روي عن عائشة ، رضي الله عنها { ، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوما مسرورا ، تبرق أسارير وجهه ، فقال : ألم تري أن مجززا المدلجي نظر آنفا إلى زيد وأسامة ، وقد غطيا رءوسهما ، وبدت أقدامهما ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض ؟ } . متفق عليه . فلولا جواز الاعتماد على القافة لما سر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا اعتمد عليه . ولأن عمر رضي الله عنه قضى به بحضرة الصحابة ، فلم ينكره منكر ، فكان إجماعا ، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في ولد الملاعنة : { انظروها ، فإن جاءت به حمش الساقين كأنه وحرة فلا أراه إلا قد كذب عليها ، وإن جاءت به أكحل ، جعدا ، جماليا ، سابغ الأليتين ، خدلج الساقين ، فهو للذي رميت به . فأتت به على النعت المكروه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن } . فقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم للذي أشبهه منهما . وقوله : { لولا الأيمان لكان لي ولها شأن } . يدل على أنه لم يمنعه من العمل بالشبه إلا الأيمان ، فإذا انتفى المانع يجب العمل به لوجود مقتضيه . وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في ابن أمة زمعة ، حين رأى به شبها بينا بعتبة بن أبي وقاص : { احتجبي منه يا سودة } . فعمل بالشبه في حجب سودة عنه . فإن قيل : فالحديثان حجة عليكم ، إذ لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالشبه فيهما ، بل ألحق الولد بزمعة ، { وقال لعبد بن زمعة : هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش ، وللعاهر الحجر } . ولم يعمل بشبه ولد الملاعنة في إقامة الحد عليها ، لشبهه بالمقذوف . قلنا : إنما لم يعمل به في ابن أمةزمعة ; لأن الفراش أقوى ، وترك العمل بالبينة لمعارضة ما هو أقوى منها ، لا يوجب الإعراض عنها إذا خلت عن المعارض . وكذلك ترك إقامة الحد عليها من أجل أيمانها ، بدليل قوله : { لولا الأيمان لكان لي ولها شأن . } على أن ضعف الشبه عن إقامة الحد لا يوجب ضعفه عن إلحاق النسب ، فإن الحد في الزنى لا يثبت إلا بأقوى البينات ، وأكثرها عددا ، وأقوى الإقرار ، حتى يعتبر فيه تكراره أربع مرات ، ويدرأ بالشبهات ، والنسب يثبت بشهادة امرأة واحدة على الولادة ، ويثبت بمجرد الدعوى ، ويثبت مع ظهور انتفائه ، حتى لو أن امرأة أتت بولد وزوجها غائب عنها منذ عشرين سنة ، لحقه ولدها ، فكيف يحتج على نفيه بعدم إقامة الحد ، ولأنه حكم بظن غالب ، ورأي راجح ، ممن هو من أهل الخبرة ، فجاز ، كقول المقومين ، وقولهم : إن الشبه يجوز وجوده وعدمه . قلنا : الظاهر وجوده ، ولهذا { قال : النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت أم سلمة : أو ترى ذلك المرأة ؟ قال : فمن أين يكون الشبه ؟ } . والحديث الذي احتجوا به حجة عليهم ; لأن [ ص: 47 ] إنكار الرجل ولده لمخالفة لونه ، وعزمه على نفيه لذلك ، يدل على أن العادة خلافه ، وأن في طباع الناس إنكاره ، وأن ذلك إنما يوجد نادرا ، وإنما ألحقه النبي صلى الله عليه وسلم به لوجود الفراش ، وتجوز مخالفة الظاهر لدليل ، ولا يجوز تركه من غير دليل ، ولأن ضعف الشبه عن نفي النسب لا يلزم منه ضعفه عن إثباته ، فإن النسب يحتاط لإثباته ، ويثبت بأدنى دليل ، ويلزم من ذلك التشديد في نفيه ، وأنه لا ينتفي إلا بأقوى الأدلة ، كما أن الحد لما انتفى بالشبه ، لم يثبت إلا بأقوى دليل ، فلا يلزم حينئذ من المنع من نفيه بالشبه في الخبر المذكور ، أن لا يثبت به النسب في مسألتنا . فإن قيل : فهاهنا إن عملتم بالقافة فقد نفيتم النسب عمن لم تلحقه القافة به . قلنا : إنما انتفى النسب ها هنا لعدم دليله ; لأنه لم يوجد إلا مجرد الدعوى ، وقد عارضها مثلها ، فسقط حكمها ، وكان الشبه مرجحا لأحدهما ، فانتفت دلالة أخرى ، فلزم انتفاء النسب لانتفاء دليله ، وتقديم اللعان عليه لا يمنع العمل به عند عدمه ، كاليد تقدم عليها البينة ، ويعمل بها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية