الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مطلب : في كراهة الأكل متكئا ، وأنه احتقار للنعمة .

( و ) يكره أكل الأكل والشرب حال كونه ( متكئا ) لقوله صلى الله عليه وسلم : { أما أنا فلا آكل متكئا } قال بعض العلماء : المتكئ هو المائل يعني في جلسته على جنبه وفسره بعض علمائنا بمطمئن . قال العلامة ابن مفلح في [ ص: 93 ] قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري { : لا آكل متكئا } أي لا آكل أكل راغب في الدنيا متمكن ، بل آكل مستوفزا بحسب الحاجة .

قال في القاموس : ضربه فأتكأه كأخرجه ألقاه على هيئة المتكئ أو على جانبه الأيسر ، وقال الخطابي في قوله عليه الصلاة والسلام : " لا آكل متكئا " المتكئ هنا الجالس المعتمد على شيء تحته قال وأراد أنه لا يقعد على الوطاء ، والوسائد كفعل من يريد الإكثار من الطعام ، بل يقعد مستوفزا لا مستوطئا ويأكل بلغة . انتهى .

ويأتي الكلام على الشرب ، والأكل قائما في محله ، وظاهر كلامهم كراهة الأكل متكئا ، وعبارة الفروع وغيره صريحة في الكراهة ، وهي بعد قوله ، ويكره عيب طعام وأكله من وسطه وأعلاه . قال الإمام أحمد : ومتكئا ، وفي الغنية وعلى طريق وعبارة الآداب : ويكره أكله متكئا ومضطجعا . زاد في الإقناع كالآداب ، أو منبطحا انتهى .

وقال الإمام ابن هبيرة : أكل الرجل متكئا يدل على استخفافه بنعمة الله فيما قدم بين يديه من رزقه فيما يراه الله على تناوله ويخالف عوائد الناس عند أكلهم الطعام من الجلوس إلى أن يتكئ عنه ، فإن هذا يجمع بين سوء الأدب ، والجهل واحتقار النعمة ولأنه إذا كان متكئا لا يصل الغذاء إلى قعر المعدة الذي هو محل الهضم فلذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ونبه على كراهته .

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على مائدة شرب عليها الخمر وأن يأكل ، وهو منبطح على بطنه } .

وذكر بعض مشايخ الحنفية أنه لا بأس بالأكل متكئا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل يوم خيبر متكئا كذا قالوا ، والحديث الذي استدلوا به رواه الطبراني من طريق بقية ، وهو ثقة لكنه مدلس ، وفي رجاله عمر الشامي مجهول ، ولفظه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال { : لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر جعلت له مائدة فأكل متكئا وأصابته الشمس فلبس الظلة } قلت : وعلى فرض صحة هذا الحديث ، فإنه منسوخ يدل له ما روي عن واثلة نفسه رضي الله عنه قال { : أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 94 ] متكئا وقتا يسيرا ، ثم تركه } .

ذكره أصحاب السير منهم الشيخ محمد الشامي في سيرته هذا مع ما روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال { : ما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا } .

والترمذي عن عبد الله بن عبيد قال : { أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام فقالت عائشة : يا نبي الله لو أكلت وأنت متكئ كان أهون عليك فأصغى بجبهته إلى الأرض ، وقال : بل آكل كما يأكل العبد وأنا جالس كما يجلس العبد ، فإنما أنا عبد قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفز } .

وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال { : أتي النبي صلى الله عليه وسلم بتمر هدية فجعل يقسمه ، وهو محتفز يأكل منه أكلا ذريعا } وفي رواية { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا مقعيا يأكل تمرا } .

نعم في مسلم وأبي داود عن مصعب بن سليم عن أنس رضي الله عنه أيضا قال { : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فرأيته يأكل متكئا } ، وهذا كأنه كان أولا ، ثم نسخ يدل له مع ما قدمنا ما روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن الله تبارك وتعالى أرسل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ملكا من الملائكة ومعه جبريل فقال الملك : إن الله تبارك وتعالى يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا وبين أن تكون ملكا ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير فأشار جبريل بيده أن تواضع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أكون عبدا نبيا } فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا ، وهذا ظاهر ولله الحمد .

فإن قيل : هذا الحديث لا يقاوم حديث مسلم ، قلنا : نعم ولكن صرح الصحابي بما يخص إطلاق ذاك في سائر الأزمنة بالزمن الذي قبل هذه المقالة ، وعلى فرض التسليم يكون فعله بعد النهي لبيان الجواز والله أعلم .

وقوله ( دد ) أي اللهو واللعب قال في القاموس الدد اللهو واللعب كالدد يعني أنه إنما أكل متكئا لأجل اللهو وعدم الاكتراث بالآداب المشروعة في الأكل والشرب والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية