الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ( 16 ) )

اختلف أهل العربية في معنى الهاء والألف اللتين في قوله : ( إنها ) فقال بعض نحويي البصرة : ذلك كناية عن المعصية والخطيئة . ومعنى الكلام عنده : يا بني ، إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل ، أو إن الخطيئة . وقال بعض نحويي الكوفة : وهذه الهاء عماد . وقال : أنث " تك " ، لأنه يراد بها الحبة ، فذهب بالتأنيث إليها ، كما قال الشاعر :


وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم



وقال صاحب هذه المقالة : يجوز نصب المثقال ورفعه ، قال : فمن رفع رفعه ( ب " تك " ) ، واحتملت النكرة أن لا يكون لها فعل في كان وليس وأخواتها ، ومن نصب جعل في " تكن " اسما مضمرا مجهولا مثل الهاء التي في قوله : ( إنها إن تك ) : ومثله قوله : ( فإنها لا تعمى الأبصار ) قال : ولو كان ( إن يك مثقال حبة ) كان صوابا ، وجاز فيه الوجهان . وأما صاحب المقالة الأولى ، فإن نصب مثقال في قوله على أنه خبر ، وتمام كان ، وقال : رفع بعضهم فجعلها كان التي لا تحتاج إلى خبر .

وأولى القولين بالصواب عندي ، القول الثاني ؛ لأن الله - تعالى ذكره - لم يعد عباده أن يوفيهم جزاء سيئاتهم دون جزاء حسناتهم ، فيقال : إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل يأت الله بها ، بل وعد كلا العاملين أن يوفيه جزاء أعمالهما . فإذا كان ذلك كذلك ، كانت الهاء في قوله : ( إنها ) بأن تكون عمادا أشبه منها بأن تكون كناية عن الخطيئة والمعصية . وأما النصب في المثقال ، فعلى أن في " تك " مجهولا والرفع فيه على أن الخبر مضمر ، كأنه قيل : إن تك في موضع مثقال حبة ؛ لأن النكرات تضمر أخبارها ، [ ص: 141 ] ثم يترجم عن المكان الذي فيه مثقال الحبة .

وعنى بقوله : ( مثقال حبة ) : زنة حبة . فتأويل الكلام إذن : إن الأمر إن تك زنة حبة من خردل من خير أو شر عملته ، فتكن في صخرة ، أو في السموات ، أو في الأرض ، يأت بها الله يوم القيامة ، حتى يوفيك جزاءه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ) من خير أو شر .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله : ( فتكن في صخرة ) فقال بعضهم : عنى بها الصخرة التي عليها الأرض ، وذلك قول روي عن ابن عباس وغيره ، وقالوا : هي صخرة خضراء .

ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو السائب قال : ثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن عبد الله بن الحارث قال : الصخرة خضراء على ظهر حوت .

حدثنا موسى بن هارون قال : ثنا عمرو قال : ثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن عبد الله ، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : خلق الله الأرض على حوت ، والحوت هو النون الذي ذكر الله في القرآن ( ن والقلم وما يسطرون ) والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ، ولا في الأرض .

وقال آخرون : عنى بها الجبال ، قالوا : ومعنى الكلام : فتكن في جبل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : ( فتكن في صخرة ) أي : جبل .

وقوله : ( يأت بها الله ) كان بعضهم يوجه معناه إلى : يعلمه الله ، ولا أعرف يأتي به بمعنى : يعلمه ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أن لقمان إنما [ ص: 142 ] وصف الله بذلك ؛ لأن الله يعلم أماكنه ، لا يخفى عليه مكان شيء منه ، فيكون وجها .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن ويحيى قالا : ثنا أبو سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك ( فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله ) قال : يعلمها الله .

حدثنا ابن وكيع قال : ثنا ابن مهدي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك مثله .

وقوله : ( إن الله لطيف خبير ) يقول : إن الله لطيف باستخراج الحبة من موضعها حيث كانت ، خبير بموضعها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( إن الله لطيف خبير ) أي : لطيف باستخراجها ، خبير بمستقرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية