الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 374 ] لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير .

استئناف بياني ناشئ عما يجول في خواطر كثير من السامعين من أنهم تأخروا عن الإنفاق غير ناوين تركه ولكنهم سيتداركونه .

وأدمج فيه تفضيل جهاد بعض المجاهدين على بعض لمناسبة كون الإنفاق في سبيل الله يشمل إنفاق المجاهد على نفسه في العدة والزاد وإنفاقه على غيره ممن لم يستكمل عدته ولا زاده ، ولأن من المسلمين من يستطيع الجهاد ولا يستطيع الإنفاق ، فأريد أن لا يغفل ذكره في عداد هذه الفضيلة إذ الإنفاق فيها وسيلة لها .

وظاهر لفظ الفتح أنه فتح مكة فإن هذا الجنس المعرف صار علما بالغلبة على فتح مكة ، وهذا قول جمهور المفسرين .

وإنما كان المنفقون قبل الفتح والمجاهدون قبله أعظم درجة في إنفاقهم وجهادهم لأن الزمان الذي قبل فتح مكة كان زمان ضعف المسلمين لأن أهل الكفر كانوا أكثر العرب فلما فتحت مكة دخلت سائر قريش والعرب في الإسلام فكان الإنفاق والجهاد فيما قبل الفتح أشق على نفوس المسلمين لقلة ذات أيديهم وقلة جمعهم قبالة جمع العدو ، ألا ترى أنه كان عليهم أن يثبتوا أمام العدو إذا كان عدد العدو عشرة أضعاف عدد المسلمين في القتال قال تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين .

وقيل المراد بالفتح : صلح الحديبية ، وهذا قول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه والزهري ، ، والشعبي ، ، وعامر بن سعد بن أبي وقاص ، واختاره الطبري . ويؤيد ما رواه الطبري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية عام الحديبية وهو الملائم لكون هذه السورة بعضها مكي وبعضها مدني فيقتضي أن مدنيها قريب عهد من مدة إقامتهم بمكة ، وإطلاق الفتح على صلح الحديبية وارد في قوله تعالى إنا فتحنا لك فتحا مبينا .

[ ص: 375 ] و " من أنفق " عام يشمل كل من أنفق . وقيل : أريد به أبو بكر الصديق فإنه أنفق ماله كله من أول ظهور الإسلام .

ونفي التسوية مراد به نفيها في الفضيلة والثواب ، فإن نفي التسوية في وصف يقتضي ثبوت أصل ذلك الوصف لجميع من نفيت عنهم التسوية ، فنفي التسوية كناية عن تفضيل أحد الجانبين وتنقيص الجانب الآخر نقصا متفاوتا .

ويعرف الجانب الفاضل والجانب المفضول بالقرينة أو التصريح في الكلام ، وليس تقديم أحد الجانبين في الذكر بعد نفي التسوية بمقتض أنه هو المفضل فقد قال الله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وقدم هذه الآية الجانب المفضل ، وكذا الذي في قول السموأل :

فليس سواء عالم وجهول

وقد أكد هذا الاقتضاء بقوله أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، أي : أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا من بعد الفتح ، فإن اسم التفضيل يدل على المشاركة فيما اشتق منه اسم التفضيل وزيادة من أخبر عنه باسم التفضيل في الوصف المشتق منه ، أي فكلا الفريقين له درجة عظيمة .

وحذف قسم من أنفق من قبل الفتح إيجازا لدلالة فعل التسوية عليه لا محالة . والتقدير : لا يستوي من أنفق من قبل الفتح ومن أنفق بعده .

والدرجة : مستعارة للفضل لأن الدرجة تستلزم الارتقاء ، فوصف الارتقاء ملاحظ فيها ، ثم يشبه الفضل والشرف بالارتقاء فعبر عنه بالدرجة ، فالدرجة من أسماء الأجناس التي لوحظت فيها صفات أوصاف مثل اسم الأسد بصفة الشجاعة في قول الخارجي :

أسد علي وفي الحروب نعامة



وقوله وكلا وعد الله الحسنى احتراس من أن يتوهم متوهم أن اسم [ ص: 376 ] التفضيل مسلوب المفاضلة للمبالغة مثل ما في قوله قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ، أي : حبيب إلي دون ما يدعونني إليه من المعصية .

وعبر بـ " الحسنى " لبيان أن الدرجة هي درجة الحسنى ليكون للاحتراس معنى زائد على التأكيد وهو ما فيه من البيان .

والحسنى : لقب قرآني إسلامي يدل على خيرات الآخرة ، قال تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة .

وقوله " منكم " حال من " من أنفق " أصله نعت قدم للاهتمام تعجيلا بهذا الوصف .

وجيء باسم الإشارة في قوله أولئك أعظم درجة دون الضمير لما تؤذن به الإشارة من التنويه والتعظيم ، وللتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما يذكر بعد اسم الإشارة ، لأجل ما ذكر قبله من الإخبار ومثله قوله أولئك على هدى من ربهم بعد قوله هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب إلخ .

وقرأ الجمهور وكلا وعد الله الحسنى بنصب كلا على أنه مفعول أول مقدم على فعله على طريقة الاشتغال بالضمير المحذوف اختصارا . وقرأ ابن عامر بالرفع على الابتداء وهما وجهان في الاشتغال متساويان .

وهذه الآية أصل في تفاضل أهل الفضل فيما فضلوا فيه ، وأن الفضل ثابت للذين أسلموا بعد الفتح من أهل مكة وغيرهم . وبئس ما يقوله بعض المؤرخين من عبارات تؤذن بتنقيص من أسلموا بعد الفتح من قريش مثل كلمة " الطلقاء " وإنما ذلك من أجل حزازات في النفوس قبلية أو حزبية ، والله يقول ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون .

وجملة والله بما تعملون خبير تذييل ، والواو اعتراضية ، والمعنى : أن الله يعلم أسباب الإنفاق وأوقاته وأعذاره ، ويعلم أحوال الجهاد ونوايا المجاهدين فيعطي كل عامل على نية عمله .

التالي السابق


الخدمات العلمية