الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل في أدوات التأكيد

الأول : التأكيد بـ " إن " قال - تعالى - : ياأيها الناس إن وعد الله حق ( فاطر : 5 ) وقوله - تعالى - : اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ( الحج : 1 ) وهي أقوى من التأكيد باللام ، كما قاله عبد القاهر في دلائل الإعجاز ، قال : وأكثر مواقع " إن " بحكم الاستقراء هو الجواب ؛ لكن بشرط " إن " يكون للسائل فيه ظن بخلاف ما أنت تجيبه به ؛ فإما أن تجعل مرد الجواب أصلا فيها فلا ؛ لأنه يؤدي إلى قولك : صالح في جواب : كيف زيد ؟ حتى تقول : إنه صالح ، ولا قائل به ، بخلاف اللام فإنه لا يلحظ فيها غير أصل الجواب .

[ ص: 504 ] وقد يجيء مع التأكيد في تقدير سؤال السائل إذا تقدمها من الكلام ما يلوح نفسه للنفس ، كقوله - تعالى - :اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ( الحج : 1 ) أمرهم بالتقوى ثم علل وجوبها مجيبا لسؤال مقدر بذكر الساعة واصفا لها بأهول وصف ، ليقرر عليه الوجوب .

وكذا قوله - تعالى - : ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( هود : 37 ) أي لا تدعني في شأنهم واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك ، لأنهم محكوم عليهم بالإغراق ، وقد جف به القلم فلا سبيل إلى كفه عنهم .

ومثله في النهي عن الدعاء لمن وجبت شقاوته قوله - تعالى - : ياإبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ( هود : 76 ) .

ومنه قوله - تعالى - : وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ( يوسف : 53 ) فإن قوله تعالى : وما أبرئ نفسي أورث للمخاطب حيرة : كيف لا ينزه نفسه مع كونها مطمئنة زكية ! فأزال حيرته بقوله - تعالى - : إن النفس لأمارة في جميع الأشخاص ( بالسوء ) إلا المعصوم . وكذا قوله - تعالى - : وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ( التوبة : 103 ) .

واعلم أن كل جملة صدرت بـ إن لإظهار فائدة ، الأولى مفيدة للتعليل وجواب سؤال مقدر ؛ فإن الفاء يصح أن تقوم فيها مقام " إن " مفيدة للتعليل ، حسن تجريدها عن كونها جوابا للسؤال المقدر ، كما سبق من الأمثلة .

وإن صدرت لإظهار فائدة الأولى لم يصح قيام الفاء مقامها كقوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ( الأنبياء : 101 ) بعد قوله : لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ( الأنبياء : 100 ) .

ومن فوائدها تحسين ضمير الشأن معها إذا فسر بالجملة الشرطية ما لا يحسن بدونها كقوله : إنه من يتق ويصبر ( يوسف : 90 ) ، أنه من يحادد الله ورسوله ( التوبة : 63 ) ، أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ( الأنعام : 54 ) ، إنه لا يفلح الكافرون [ ص: 505 ] ( المؤمنون : 117 ) وأما حسنه بدونها في قوله - تعالى - : قل هو الله أحد ( الإخلاص : 1 ) فلفوات الشرط .

الثاني : " أن " المفتوحة ، نحو : علمت أن زيدا قائم ، وهي حرف مؤكد كالمكسورة ؛ نص عليه النحاة ، واستشكله بعضهم قال : لأنك لو صرحت بالمصدر المنسبك منها لم يفد توكيدا ؛ ويقال : التوكيد للمصدر المنحل لأن محلها مع ما بعدها المفرد ؛ وبهذا يفرق بينها وبين " إن " المكسورة ؛ فإن التأكيد في المكسورة للإسناد ، وهذه لأحد الطرفين .

الثالث : " كأن " وفيها التشبيه المؤكد إن كانت بسيطة ، وإن كانت مركبة من كاف التشبيه و أن فهي متضمنة ، لأن فيها ما سبق وزيادة .

قال الزمخشري : والفصل بينه وبين الأصل - أي بين قولك : كأنه أسد ، وبين : أنه كالأسد ، أنك مع كأن بان على التشبيه من أول الأمر ، وثم بعد مضي صدره على الإثبات .

وقال الإمام في نهاية الإيجاز : اشترك الكاف ، وكأن في الدلالة على التشبيه ، وكأن أبلغ ، وبذلك جزم حازم في منهاج البلغاء ، وقال : وهي إنما تستعمل حيث يقوى الشبه ؛ حتى يكاد الرائي يشك في أن المشبه هو المشبه به أو غيره ، ولذلك قالت بلقيس : كأنه هو ( النمل : 42 ) .

الرابع : لكن لتأكيد الجمل ، ذكره ابن عصفور ، والتنوخي في [ ص: 506 ] الأقصى : وقيل للتأكيد مع الاستدراك . وقيل : للاستدراك المجرد ، وهي أن يثبت لما بعدها حكم يخالف ما قبلها ؛ ومثلها " ليت " ، ولعل ، و " لعن " في لغة بني تميم ؛ لأنهم يبدلون همزة أن المفتوحة عينا ؛ وممن ذكر أنها من المؤكدات : التنوخي .

الخامس : لام الابتداء نحو : إن ربي لسميع الدعاء ( إبراهيم : 39 ) وهي تفيد تأكيد مضمون الجملة ، ولهذا زحلقوها في باب " إن " عن صدر الجملة كراهية ابتداء الكلام بمؤكدين ، ولأنها تدل بجهة التأكيد ، وإن تدل بجهتين : العمل والتأكيد ، والدال بجهتين مقدم على الدال بجهة كنظيره في الإرث وغيره . وإذا جاءت مع " إن " كان بمنزلة تكرار الجملة ثلاث مرات ، لأن " إن " أفادت التكرير مرتين ، فإذا دخلت اللام صارت ثلاثا .

وعن الكسائي أن اللام لتوكيد الخبر ، وإن لتأكيد الاسم ؛ وفيه تجوز ، لأن التأكيد إنما هو للنسبة لا للاسم والخبر .

السادس : الفصل ؛ وهو من مؤكدات الجملة ؛ وقد نص سيبويه على أنه يفيد التأكيد ، وقال في قوله - تعالى - : إن ترني أنا أقل منك مالا وولدا ( الكهف : 39 ) ، ( أنا ) وصف للياء في ( ترن ) يزيد تأكيدا وهذا صحيح ؛ لأن المضمر يؤكد الضمير ، وأما تأكيد المظهر بالمضمر فلم يعهد ، ولهذا سماه بعضهم " دعامة " ، لأنه يدعم به الكلام ، أي يقوى ، ولهذا قالوا : لا يجاء مع التوكيد ، فلا يقال : زيد نفسه هو الفاضل . ووافق على ذلك ابن الحاجب في شرح المفصل ، وخالف في أماليه ، فقال : ضمير الفصل ليس توكيدا ، [ ص: 507 ] لأنه لو كان ، فإما لفظيا أو معنويا ، لا جائز أن يكون لفظيا ، لأن اللفظي إعادة اللفظ الأول كزيد زيد ، أو معناه كقمت ، والفصل ليس هو المسند إليه ولا معناه لأنه ليس مكنيا عن المسند إليه ، ولا مفسرا ، ولا جائز أن يكون معنويا ، لأن ألفاظه محصورة ، كالنفس والعين ، وهذا منه نفي للتوكيد الصناعي ، ولبس للكلام .

وفي البسيط للواحدي عند قوله - تعالى - : وأولئك هم المفلحون ( البقرة : 5 ) قال سيبويه : دخل الفصل في قوله - تعالى - : تجدوه عند الله هو خيرا ( المزمل : 20 ) وفي قوله - تعالى - : ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم ( آل عمران : 180 ) وفي قوله - تعالى - : ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ( سبأ : 6 ) .

وفي قوله - تعالى - : إن كان هذا هو الحق من عندك ( الأنفال : 32 ) وذكر أن هذا بمنزلة ما في قوله - تعالى - : فبما رحمة ( آل عمران : 159 ) انتهى .

السابع : ضمير البيان للمذكر ، والقصة للمؤنث ، ويقدمونه قبل الجملة نظرا لدلالته على تعظيم الأمر في نفسه ، والإطناب فيه ، ومن ثم قيل له : الشأن والقصة ، وعادتهم إذا أرادوا ذكر جملة قد يقدمون قبلها ضميرا يكون كناية عن تلك الجملة ، وتكون الجملة خبرا عنه ومفسرة له ، ويفعلون ذلك في مواضع التفخيم ، والغرض منه أن يتطلع السامع إلى الكشف عنه وطلب تفسيره ، وحينئذ تورد الجملة [ ص: 508 ] المفسرة له . وقد يكون لمجرد التعظيم ، كقوله - تعالى - : إنني أنا الله لا إله إلا أنا ( طه : 14 ) . وقد يفيد معه الانفراد نحو قوله - تعالى - : قل هو الله أحد ( الإخلاص : 1 ) أي المنفرد بالأحدية .

قال جماعة من النحاة : ( هو ) ضمير الشأن ، والله مبتدأ ثان ، وأحد خبر المبتدأ الثاني ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول ، ولم يفتقر إلى عائد ؛ لأن الجملة تفسير له ، ولكونها مفسرة لم يجب تقديمها عليه ، وقيل : هو كناية عن الله ، لأنهم سألوه أن يصف ربه ، فنزلت .

ومنه : وأنه لما قام عبد الله ( الجن : 19 ) ويجوز تأنيثه إذا كان في الكلام مؤنث ، كقوله - تعالى - : فإنها لا تعمى الأبصار ( الحج : 46 ) فالهاء في : ( فإنها ) ضمير القصة ، و تعمى الأبصار في موضع رفع خبر إن ، وقوله - تعالى - : ( أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) ( الشعراء : 197 ) بقراءة الياء ، و ( أن يعلمه ) مبتدأ ، و ( آية ) الخبر ، والهاء ضمير القصة ، وأنث لوجود آية في الكلام .

الثامن : تأكيد الضمير ؛ ويجب أن يؤكد المتصل بالمنفصل إذا عطف عليه ، كقوله - تعالى - : اسكن أنت وزوجك الجنة ( البقرة : 35 ) وقوله - تعالى - : فاذهب أنت وربك ( المائدة : 24 ) .

وقيل : لا يجب التأكيد ، بل يشترط الفاصل بينهما ؛ بدليل قوله - تعالى - : ما أشركنا ولا آباؤنا ( الأنعام : 148 ) فعطف ( آباؤنا ) على المضمر المرفوع ؛ وليس هنا تأكيد بل فاصل وهو ( لا ) وهذا لا حجة فيه ؛ لأنها دخلت بعد واو العطف ، والذي يقوم مقام التأكيد إنما يأتي قبل واو العطف ، كالآيات المتقدمة بدليل قوله : فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ( هود : 112 ) .

ومنهم من لم يشترط فاصلا ، بدليل قوله : إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ( الأعراف : 115 ) فأكد السحرة ضمير أنفسهم في الإلقاء دون ضمير موسى ، حيث لم يقولوا : إما أن تلقي أنت . وفيه دليل على أنهم أحبوا التقديم في الإلقاء لعلمهم بأنهم [ ص: 509 ] يأتون بسحر عظيم يقرر عظمته في أذهان الحاضرين ، فلا يرفعها ما يأتي بعدها على زعمهم ، وإنما ابتدءوابموسى فعرضوا عليه البداءة بالإلقاء على عادة العلماء والصناع في تأدبهم مع قرنائهم ! ومن ثم قيل تأدبوا تهذبوا .

وأجيب بأنه إنما لم يؤكد في الآية ؛ لأنه استغنى عن التأكيد بالتصريح بالأولية في قوله : وإما أن نكون أول من ألقى ( طه : 65 ) وهذا جواب بياني لا نحوي .

فإن قيل : ما وجه هذا الإطناب ، وهلا قالوا : إما أن تلقي وإما أن نلقي ؟ فالجواب من وجهين :

أحدهما : لفظي ، وهو المزاوجة لرؤوس الآي على سياق خواتمها ، من أول السورة إلى آخرها .

والثاني : معنوي وهو أنه سبحانه أراد أن يخبر عن قوة أنفس السحرة واستطالتهم عند أنفسهم على موسى ؛ فجاء عنهم باللفظ أتم وأوفى منه في إسنادهم الفعل إليه . ذكر ذلك ابن جني في خاطرياته ثم أورد سؤالا وهو : إنا نعلم أن السحرة لم يكونوا أهل لسان فيذهب بهم هذا المذهب من صيغة الكلام ! وأجاب بأن جميع ما ورد في القرآن حكاية عن غير أهل اللسان من القرون الخالية ، إنما هو من معروف معانيهم : وليست بحقيقة ألفاظهم ، ولهذا لا يشك في أن قوله تعالى : قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ( طه : 63 ) أن هذه الفصاحة لم تجر على لغة العجم .

التاسع : تصدير الجملة بضمير مبتدأ يفيد التأكيد ؛ ولهذا قيل بإفادة الحصر ، ذكره [ ص: 510 ] الزمخشري في مواضع من كشافه . قال في قوله - تعالى - : وبالآخرة هم يوقنون ( البقرة : 4 ) معناه الحصر ، أي لا يؤمن بالآخرة إلا هم . وقال في قوله : أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ( الأنبياء : 21 ) أن معناه لا ينشر إلا هم ، وإن المنكر عليهم ما يلزمهم حصر الألوهية فيهم . ثم خالف هذه القاعدة لما خالف مذهبه الفاسد في قوله - تعالى - : وما هم بخارجين من النار ( البقرة : 167 ) فقال : هم هنا بمنزلتها في قوله :

هم يفرشون اللبد كل طمرة في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم ، لا على الاختصاص . انتهى .

وبيانه أن مقتضى قاعدته في هذه الآية يدل على خروج المؤمنين الفساق من النار ؛ وليس هذا معتقده ، فعدل عن ذلك إلى التأويل للآية بفائدة تتم له ، فجعل الضمير المذكور يفيد تأكيد نسبة الخلود لهم لا اختصاصه بهم ؛ وهم عنده بهذه المثابة لأن عصاة المؤمنين وإن خلدوا في النار على زعمه إلا أن الكفار عنده أحق بالخلود وأدخل في استحقاقه من عصاة المؤمنين ، فتخيل في تخريج الآية على قاعدة مذهبه من غير خروج عن قاعدة أهل المعاني في اقتضاء تقديم الضمير الاختصاص . والجواب عن هذا أن إفادة تقديم الضمير المبتدأ للاختصاص والحصر أقوى وأشهر عندهم من إفادة مجرد التمكن في الصفة .

وقد نص الجرجاني في دلائل الإعجاز على أن إفادة تقديم الفاعل على الفعل للاختصاص جليلة ، وأما إرادة تحقيق الأمر عند السامع أنهم بهذه الصفة ، وأنهم متمكنون منها فليست جليلة ، وإذا كان كذلك فلا يعدل عن المعنى الظاهر إلا بدليل ، وليس هنا ما يقتضي إخراج الكلام عن معناه الجلي ، كيف وقد صحت الأحاديث وتواترت على أن العصاة [ ص: 511 ] يخرجون من النار بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وشفاعة غيره ، حتى لا يبقى فيها موحد أبدا ! فهذه الآية فيها دليل لأهل السنة على انفراد الكفار بالخلود في النار واختصاصهم بذلك ، والسنة المتواترة موافقة ، ولا دليل للمخالف سوى قاعدة الحسن والقبيح العقليين وإلزامهم الله تعالى مما لا ينبغي لهم أن يلزموه من عدم العفو وتحقيق العقاب والخلود الأبدي للمؤمنين في النار . نعوذ بالله من ذلك .

فائدة : لا تخص إفادة الحصر بتقديم الضمير المبتدأ ، بل هو كذلك إذا تقدم الفاعل ، أو المفعول ، أو الجار ، أو المجرور المتعلقات بالفعل ؛ ومن أمثلته قوله - تعالى - : قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا ( الملك : 29 ) فإن الإيمان لما لم يكن منحصرا في الإيمان بالله بل لا بد معه من رسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر ، وغيره مما يتوقف صحة الإيمان عليه بخلاف التوكل ، فإنه لا يكون إلا على الله وحده لتفرده بالقدرة والعلم القديمين الباقيين - قدم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره ، لأن غيره لا يملك ضرا ولا نفعا فيتوكل عليه ؛ ولذلك قدم الظروف في قوله : لا فيها غول ( الصافات : 47 ) ليفيد النفي عنها فقط واختصاصها بذلك ، بخلاف تأخيره في لا ريب فيه ( البقرة : 2 ) لأن نفي الريب لا يختص بالقرآن ، بل سائر الكتب المنزلة كذلك .

العاشر : منها هاء التنبيه في النداء نحو : يا أيها ، قال سيبويه : وأما الألف والهاء اللتان لحقتا أيا توكيدا ، فكأنك كررت " يا " مرتين إذا قلت : يا أيها ، وصار الاسم تنبيها . هذا كلامه ، وهو حسن جدا ، وقد وقع عليه الزمخشري فقال : وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لفائدة تبيين معاضدة حرف النداء ومكاتفته بتأكيد معناه ووقوعها عوضا مما يستحقه ، أي من الإضافة .

[ ص: 512 ] الحادي عشر : يا الموضوعة للبعيد إذا نودي بها القريب الفطن ، قال الزمخشري : إنه للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معتنى به جدا .

الثاني عشر : الواو ، زعم الزمخشري أنها تدخل على الجملة الواقعة صفة لتأكيد ثبوت الصفة بالموصوف ، كما تدخل على الجملة الحالية ، كقوله - تعالى - : وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ( الحجر : 4 ) وقوله - تعالى - : ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ( الكهف : 22 ) والصحيح أن الجملة الموصوف بها لا تقترن بالواو ؛ لأن الاستثناء المفرغ لا يقع في الصفات بل الجملة حال من ( قرية ) لكونها عامة بتقديم ( إلا ) عليها .

الثالث عشر : إما المكسورة كقوله - تعالى - : فإما يأتينكم مني هدى ( البقرة : 38 ) أصلها إن الشرطية زيدت ما تأكيدا ، وكلام الزجاج يقتضي أن سبب اللحاق نون التوكيد .

وقال الفارسي : الأمر بالعكس ؛ لمشابهة فعل الشرط بدخول ما للتأكيد بالفعل المقسم عليه من جهة أنها كالعدم في القسم لما فيها من التأكيد . وجميع ما في القرآن من الشرط بعد إما توكيده بالنون .

قال أبو البقاء : وهو القياس ، لأن زيادة ( ما ) مؤذنة بإرادة شدة التوكيد ، واختلف النحاة أتلزم النون المؤكدة فعل الشرط عند وصل إما أم لا ؟ فقال المبرد والزجاج : يلزم ولا تحذف إلا ضرورة ، وقال سيبويه وغيره : لا تلزم فيجوز إثباتها وحذفها ، والإثبات أحسن . ويجوز حذف " ما " وإثبات " النون " . قال سيبويه : إن شئت لم تقحم النون ، كما أنك إذا شئت لم تجئ بها . انتهى .

[ ص: 513 ] وجاء السماع بعدم النون بعد إما ، كقول الشاعر :


فإما تريني ولي لمة     فإن الحوادث أودى بها

.

الرابع عشر : أما المفتوحة ، قال الزمخشري في قوله - تعالى - : فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ( البقرة : 26 ) إنها تفيد التأكيد .

الخامس عشر : ألا الاستفتاحية كما صرح به الزمخشري ، في قوله - تعالى - : ألا إنهم هم المفسدون ( البقرة : 12 ) ويدل عليه قولهم : إنها للتحقيق ؛ أي تحقيق الجملة بعدها ، وهذا معنى التأكيد . قال الزمخشري : ولكونها بهذا المنصب من التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم ، نحو : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( يونس : 62 ) .

السادس عشر : ما النافية ، نحو : ما زيد قائما أو قائم ، على لغة تميم جعل سيبويه فيها معنى التوكيد ؛ لأنه جعلها في النفي جوابا لـ " قد " في الإثبات ، كما أن قد فيها معنى التوكيد ، فكذلك ما جعل جوابا لها ، ذكره ابن الحاجب في شرح المفصل .

السابع عشر : الباء في الخبر ، نحو ما زيد بمنطلق ، قال الزمخشري في كشافه [ ص: 514 ] القديم : هي عند البصريين لتأكيد النفي . وقال الكوفيون : قولك : ما زيد بمنطلق ، جواب إن زيدا لمنطلق ، ما بإزاء إن والباء بإزاء اللام ؛ والمعنى راجع إلى أنها للتأكيد ؛ لأن اللام لتأكيد الإيجاب ، فإذا كانت بإزائها كانت لتأكيد النفي . هذا كله في مؤكدات الجملة الاسمية .

التالي السابق


الخدمات العلمية