الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من رجوع الأمور إليه هدايته من يشاء؛ وإضلاله من يشاء؛ قال - مادحا لهذه الأمة؛ ليمعنوا في رضاه حمدا؛ وشكرا؛ ومؤيسا لأهل الكتاب عن إضلالهم ليزدادوا حيرة؛ وسكرا -: كنتم خير أمة ؛ أي: وجدتم على هذا الوصف الثابت لكم؛ جبلة؛ وطبعا؛ ثم وصف الأمة بما يدل على عموم الرسالة؛ وأنهم سيقهرون أهل الكتاب؛ فقال: أخرجت للناس ؛ ثم بين وجه الخيرية بما لم يحصل؛ مجموعة لغيرهم على ما هم عليه من المكنة؛ بقوله: تأمرون ؛ أي: على سبيل التجدد؛ والاستمرار؛ بالمعروف ؛ أي: كل ما عرفه الشرع؛ وأجازه؛ [ ص: 25 ] وتنهون عن المنكر ؛ وهو ما خالف ذلك؛ ولو وصل الأمر إلى القتال؛ مبشرا لهم بأنه قضى في الأزل أنهم يمتثلون ما أمرهم به من الأمر بالمعروف؛ والنهي عن المنكر؛ في قوله: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ؛ إراحة لهم من كلفة النظر في أنهم هل يمتثلون فيفلحوا؛ وإزاحة لحملهم أعباء الخطر بكونهم يعانون عليه ليفوزوا؛ ويربحوا؛ فصارت فائدة الأمر كثيرة الثواب؛ بقصد امتثال الواجب؛ وللترمذي - وقال: حسن - عن بهز بن حكيم؛ عن أبيه؛ عن جده؛ أنه سمع النبي - صلى اللـه عليه وسلم - يقول في هذه الآية: "أنتم تتمون سبعين أمة؛ أنتم خيرها؛ وأكرمها على الله - سبحانه وتعالى"؛ وللبخاري؛ في التفسير؛ عن أبي هريرة - رضي الله (تعالى) عنه - قال: "أنتم خير الناس للناس؛ تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم؛ حتى يدخلوا في الإسلام".

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أخبر عنهم بهذا الوصف الشريف في نفسه؛ أتبعه ما زاده شرفا؛ وهو أنهم فعلوه في حال إيمانهم؛ فهو معتبر به؛ لوجود شرطه؛ [ ص: 26 ] الذي هو أساس كل خير؛ فقال وتؤمنون ؛ أي: تفعلون ذلك والحال أنكم تؤمنون؛ بالله ؛ أي: الملك الأعلى؛ الذي تاهت الأفكار في معرفة كنه ذاته؛ وارتدت نوافذ أبصار البصائر خاسئة عن حصر صفاته؛ أي: تصدقون أنبياءه؛ ورسله بسببه؛ في كل ما أخبروا به؛ قولا؛ وفعلا؛ ظاهرا؛ وباطنا؛ وتفعلون جميع أوامره؛ وتنهون عن جميع مناهيه; وهذا يفهم أن من لم يؤمن كإيمانهم؛ فليس من هذه الأمة أصلا؛ لأن الكون المذكور لا يحصل إلا بجميع ما ذكر؛ وكرر الاسم الأعظم؛ زيادة في تعظيمهم؛ وقد صدق الله؛ ومن أصدق من الله حديثا؟!

                                                                                                                                                                                                                                      قال الإمام أبو عمر؛ يوسف بن عبد البر النمري؛ في خطبة كتاب الاستيعاب: روى ابن القاسم عن مالك أنه سمعه يقول: "لما دخل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشام؛ نظر إليهم رجل من أهل الكتاب؛ فقال: ما كان أصحاب عيسى ابن مريم الذين قطعوا بالمناشير؛ وصلبوا على الخشب؛ بأشد اجتهادا من هؤلاء"؛ انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من المعلوم أن التقدير: "وذلك خير لكم؛ عطف عليه [ ص: 27 ] قوله: ولو آمن أهل الكتاب ؛ أي: أوقعوا الإيمان؛ كما آمنتم بجميع الرسل؛ وجميع ما أنزل عليهم في كتابهم؛ وغيره؛ ولم يفرقوا بين شيء من ذلك؛ لكان ؛ أي: الإيمان؛ خيرا لهم ؛ إشارة إلى تسفيه أحلامهم؛ في وقوفهم مع ما منعهم عن الإيمان من العرض القليل الفاني؛ والرئاسة التافهة؛ وتركهم الغنى الدائم؛ والعز الباهر الثابت.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان هذا ربما أوهم أنه لم يؤمن منهم أحد؛ قال - مستأنفا -: منهم المؤمنون ؛ أي: الثابتون في الإيمان؛ ولكنهم قليل؛ وأكثرهم الفاسقون ؛ أي: الخارجون من رتبة الأوامر والنواهي؛ خروجا يضمحل معه خروج غيرهم؛

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية