الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [ 20 - 26 ] فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 6050 ] فأراه الآية الكبرى أي: الدلالة الكبرى على أنه لله رسول أرسله إليه. والفاء فصيحة تفصح عن جمل قد طويت، تعويلا على تفصيلها في السور الأخرى، أي: فذهب وبلغ ورجع وتحدى فأراه الآية الكبرى، وهو على ما قاله مجاهد : عصاه ويده، أي: عصاه إذ تحولت ثعبانا مبينا، ويده إذ أخرجها بيضاء للناظرين; وإفرادهما لأنهما كالآية الواحدة في الدلالة، أو هي العصا لأنها كانت المقدمة والأصل. والبقية كالتبع. وقيل: وكونها كبرى باعتبار معجزات من قبله من الرسل، أو هو للزيادة المطلقة.

                                                                                                                                                                                                                                      فكذب وعصى أي: فكذب فرعون موسى فيما أتاه من الآيات المعجزة، ودعاها سحرا، وعصاه فيما أمره به من طاعة ربه وخشيته إياه.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أدبر أي: أعرض عما هدي إليه، أو انصرف عن المجلس كبرا يسعى أي: يجد في معارضة الآية بالمكايد الشيطانية والحيل النفسانية، أو أدبر بعد ما رأى الثعبان، مرعوبا مسرعا في مشيه.

                                                                                                                                                                                                                                      فحشر أي: جمع السحرة، أو قومه وأتباعه فنادى أي: في المجمع بنفسه أو بمناد.

                                                                                                                                                                                                                                      فقال أنا ربكم الأعلى أي: على كل من يلي أمركم. وفي (التنوير): أي: أنا ربكم ورب أصنامكم الأعلى فلا تتركوا عبادتها.

                                                                                                                                                                                                                                      قال القاضي: وقد كان الأليق به، بعد ظهور خزيه عند انقلاب العصا حية، أن لا يقول هذا القول; لأن عند ظهور الذلة والعجز كيف يليق أن يقول "أنا ربكم الأعلى"؟ فدلت هذه الآية على أنه في ذلك الوقت صار كالمعتوه الذي لا يدري ما يقول. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا على أنه أراد بالرب الخالق والموجد، والظاهر أن مراده ذو السلطان الأعلى والنفوذ الأقوى، وأنه الذي يستأهل الطاعة دون غيره. ولا يخفى ما فيه من جحود قدرة الله تعالى التي هي فوق قدرته، والكفر بآية موسى والصد عن دعوته; ولذا أخذ أشد الأخذ، فإنه لم يزل في عتوه حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر، عند خروجهم من مصر، فأغرقه الله تعالى في البحر، وهو معنى قوله تعالى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى أي: عذبه عذابهما، أي: أن أخذه لم يكن مقصورا على الإغراق وحده، بل نكل به وعذبه عذاب يوم القيامة. و "نكال" مفعول مطلق (أخذ)، بتأويل في الأول أو في الثاني، والإضافة من قبيل إضافة [ ص: 6051 ] الموصوف إلى الصفة. وقيل: الآخرة هي قوله: "أنا ربكم الأعلى"، والأولى هي تكذيبه موسى حين أراه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      قال القفال : وهذا كأنه هو الأظهر; لأنه تعالى قال: فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فذكر المعصيتين ثم قال: فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فظهر أن المراد أنه عاقبه على هذين الأمرين. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وما ذكره القفال كان وقع في قلبي قبل أن أراه. وأراني في إيثار له.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ختم تعالى القصة بقوله: إن في ذلك لعبرة لمن يخشى أي: في أخذه وما أحل به من العذاب والخزي، عظة ومعتبرا لمن يخاف الله ويخشى عقابه، ويعلم أن هذه سنته في كل من يقاوم الحق ويحاربه; فإن نبأ الأولين عبرة للآخرين.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية