الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1179 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      هذا الجزء الثامن مؤلف من شطرين: الشطر الأول هو بقية سورة الأنعام - التي سبق شطرها الأول في الجزء السابع - والشطر الثاني هو من سورة الأعراف..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد سبق التعريف بسورة الأنعام في الجزء السابع ; وسنحاول هنا أن نصل قارئ هذا الجزء بالتعريف الذي تضمنه ذلك الجزء. أما الكلام عن سورة الأعراف فسيجيء في موضعه - إن شاء الله - عند ما نواجه السورة.

                                                                                                                                                                                                                                      تمضي بقية سورة الأنعام على منهج السورة الذي أوضحناه في التعريف بها في الجزء السابع . والذي يحسن أن نشير إليه ملخصا في فقرات مجملة :

                                                                                                                                                                                                                                      جاء في التعريف بالسورة هذه الفقرات :

                                                                                                                                                                                                                                      إنها - في جملتها - تعرض حقيقة الألوهية، تعرضها في مجالي الكون والحياة، كما تعرضها في مجالي النفس والضمير.. وتعرضها في مجاهيل هذا الكون المشهود ; كما تعرضها في مجاهيل ذلك الغيب المكنون.. وتعرضها في النشأة الكونية، والنشأة الحيوية ، والنشأة الإنسانية; كما تعرضها في مصارع الغابرين ، واستخلاف المستخلفين.. وتعرضها في مشاهد الفطرة وهي تواجه الكون، وتواجه الأحداث، وتواجه النعماء والضراء; كما تعرضها في مظاهر القدرة الإلهية والهيمنة في حياة البشر الظاهرة والمستكنة، وفي أحوالهم الواقعة والمتوقعة.. وأخيرا تعرضها في مشاهد القيامة ، ومواقف الخلائق ، وهي موقوفة على ربها الخالق ...

                                                                                                                                                                                                                                      هكذا تطوف السورة بالقلب البشري في هذه الآماد والآفاق ، وفي هذه الأغوار والأعماق .. ولكنها تمضي في هذا كله على منهج القرآن المكي - الذي أسلفنا الحديث عنه في الصفحات السابقة - وعلى منهج القرآن كله.. إنها لا تهدف إلى تصوير نظرية في العقيدة ، ولا إلى جدل لاهوتي يشغل الأذهان والأفكار، إنما تهدف إلى تعريف الناس بربهم الحق ، لتصل من هذا التعريف إلى تعبيد الناس لربهم الحق. تعبيد ضمائرهم وأرواحهم ، وتعبيد سعيهم وحركتهم ، وتعبيد تقاليدهم وشعائرهم ، وتعبيد واقعهم كله لهذا السلطان المتفرد. سلطان الله الذي لا سلطان غيره في الأرض ولا في السماء.

                                                                                                                                                                                                                                      ويكاد اتجاه السورة كله يمضي إلى هذا الهدف المحدد .. من أولها إلى آخرها .. فالله هو الخالق، والله هو الرازق ، والله هو المالك، والله هو صاحب القدرة والقهر والسلطان، والله هو العليم بالغيوب والأسرار، والله هو الذي يقلب القلوب والأبصار كما يقلب الليل والنهار. وكذلك يجب أن يكون الله هو الحاكم في حياة [ ص: 1180 ] العباد ; وألا يكون لغيره أمر ولا نهي ، ولا شرع ولا حكم ، ولا تحليل ولا تحريم. فهذا كله من خصائص الألوهية ولا يجوز أن يزاوله في حياة الناس أحد من دون الله ، لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ، ولا يضر ولا ينفع ، ولا يمنح ولا يمنع ، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا في الدنيا ولا في الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                      وسياق السورة يسوق على هذه القضية أدلته في تلك المشاهد والمواقف والإيقاعات البالغة حد الروعة الباهرة ، والتي تواجه القلب بالحشود الحاشدة من المؤثرات الموحية ، من كل درب ومن كل باب !

                                                                                                                                                                                                                                      والقضية الكبرى التي تعالجها السورة هي قضية " الألوهية والعبودية " في السماوات والأرض في محيطها الواسع ، وفي مجالها الشامل، ولكن المناسبة الحاضرة في حياة الجماعة المسلمة حينذاك - المناسبة التطبيقية لهذه القاعدة الكبيرة الشاملة - هي ما تزاوله الجاهلية من حق التحريم والتحليل في الذبائح والمطاعم، ومن حق تقرير الشعائر في النذور من الذبائح والثمار ، والأولاد . وهي المناسبة التي تتحدث عنها هذه الآيات في أواخر السورة :

                                                                                                                                                                                                                                      فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ... (118 - 121)

                                                                                                                                                                                                                                      وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فقالوا: هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا. فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم، ليردوهم، وليلبسوا عليهم دينهم. ولو شاء الله ما فعلوه، فذرهم وما يفترون. وقالوا: هذه أنعام وحرث حجر، لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها - افتراء عليه - سيجزيهم بما كانوا يفترون. وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء. سيجزيهم وصفهم. إنه حكيم عليم. قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وحرموا ما رزقهم الله - افتراء على الله - قد ضلوا وما كانوا مهتدين (136 - 140) .

                                                                                                                                                                                                                                      هذه هي المناسبة الحاضرة في حياة الأمة المسلمة - والجاهلية من حولها - التي تتمثل فيها تلك القضية الكبيرة; قضية التشريع والحاكمية، ومن ورائها القضية الكبرى; " قضية الألوهية والعبودية " التي تواجهها السورة كلها، ويعالجها القرآن المكي كله، كما يعالجها القرآن المدني أيضا، كلما جاء ذكر النظام فيه وذكر التشريع.

                                                                                                                                                                                                                                      والحشد الذي يتدفق به سياق السورة من التقريرات والمؤثرات، وهو يواجه الجاهلية وأهلها في أمر هذه الأنعام والذبائح والنذور - وهي المناسبة التي تتمثل فيها قضية حق الحاكمية والتشريع - وربطها بقضية العقيدة كلها " قضية الألوهية والعبودية " وجعلها مسألة إيمان أو كفر، ومسألة إسلام أو جاهلية. هذا الحشد - على هذا النحو الذي سنحاول أن نستعرض نماذج منه في هذا التعريف المختصر بالسورة، والذي سيتجلى على حقيقته في المواجهة التفصيلية للنصوص في السياق بعد ذلك - يوقع في النفس تلك الحقيقة الأصيلة في طبيعة هذا الدين، وهي أن كل جزئية صغيرة في الحياة الإنسانية يجب أن تخضع خضوعا مطلقا لحاكمية الله المباشرة الممثلة في شريعته. وإلا فهو الخروج من هذا الدين جملة، من أجل الخروج على حاكمية الله المطلقة في تلك الجزئية الصغيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1181 ] كذلك يدل ذلك الحشد على مدى الأهمية التي ينوطها هذا الدين بتخليص مظهر الحياة كله من ظلال حاكمية البشر في أي شأن من شؤون البشر - جل أم حقر، كبر أم صغر - وربط أي شأن من هذه الشؤون بالأصل الكبير الذي يتمثل فيه هذا الدين. وهو حاكمية الله المطلقة التي تتمثل فيها ألوهيته في الأرض، كما تتمثل ألوهيته في الكون كله بتصريف أمر هذا الكون كله بلا شريك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية