الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 86 ] ( ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أنهم اختلفوا في أن الهاء في قوله : ( ولقد صرفناه ) إلى أي شيء يرجع ، وذكروا فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : وهو الذي عليه الجمهور أنه يرجع إلى المطر ، ثم من هؤلاء من قال : معنى "صرفناه " أنا أجريناه في الأنهار حتى انتفعوا بالشرب وبالزراعات وأنواع المعاش به ، وقال آخرون : معناه أنه سبحانه ينزله في مكان دون مكان ، وفي عام دون عام ، ثم في العام الثاني يقع بخلاف ما وقع في العام الأول ، قال ابن عباس : ما عام بأكثر مطرا من عام ، ولكن الله يصرفه في الأرض ، ثم قرأ هذه الآية . وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم ، فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي وثانيها : وهو قول أبي مسلم : أن قوله : ( صرفناه ) راجع إلى المطر والرياح والسحاب والأظلال وسائر ما ذكر الله تعالى من الأدلة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : ( ولقد صرفناه ) أي هذا القول بين الناس في القرآن وسائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل ، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر ليتفكروا ويستدلوا به على الصانع ، والوجه الأول أقرب ؛ لأنه أقرب المذكورات إلى الضمير .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الجبائي : قوله تعالى : ( ليذكروا ) يدل على أنه تعالى مريد من الكل أن يتذكروا ويشكروا ، ولو أراد منهم أن يكفروا ويعرضوا لما صح ذلك ، وذلك يبطل قول من قال : إن الله تعالى مريد للكفر ممن يكفر ، قال : ودل قوله : ( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) على قدرتهم على فعل هذا التذكر ؛ إذ لو لم يقدروا لما جاز أن يقال : أبوا أن يفعلوه ، كما لا يقال في الزمن : أبى أن يسعى ، وقال الكعبي : قوله : ( ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ) حجة على من زعم أن القرآن وبال على الكافرين ، وأنه لم يرد بإنزاله أن يؤمنوا ؛ لأن قوله : ( ليذكروا ) عام في الكل ، وقوله : ( فأبى أكثر الناس ) يقتضي أن يكون هذا الأكثر داخلا في ذلك العام ؛ لأنه لا يجوز أن يقال : أنزلناه على قريش ليؤمنوا ، فأبى أكثر بني تميم إلا كفورا . واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مرارا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله : ( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) المراد كفران النعمة وجحودها من حيث لا يتفكرون فيها ولا يستدلون بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه ، وقيل : المراد من الكفور هو الكفر ، وذلك الكفر إنما حصل لأنهم يقولون : مطرنا بنوء كذا . لأن من جحد كون النعم صادرة من المنعم ، وأضاف شيئا من هذه النعمة إلى الأفلاك والكواكب فقد كفر . واعلم أن التحقيق أن من جعل الأفلاك والكواكب مستقلة باقتضاء هذه الأشياء فلا شك في كفره ، وأما من قال : الصانع تعالى جبلها على خواص وصفات تقتضي هذه الحوادث ، فلعله لا يبلغ خطؤه إلى حد الكفر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قالوا : الآية دلت على أن خلاف معلوم الله مقدور له ; لأن كلمة لو دلت على أنه تعالى ما شاء أن يبعث في كل قرية نذيرا ، ثم إنه تعالى أخبر عن كونه قادرا على ذلك ، فدل ذلك على أن خلاف معلوم الله مقدور له .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 87 ] أما قوله تعالى : ( ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ) فالأقوى أن المراد من ذلك تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : كأنه تعالى بين له أنه مع القدرة على بعثة رسول ونذير في كل قرية ، خصه بالرسالة ، وفضله بها على الكل ، ولذلك أتبعه بقوله : ( فلا تطع الكافرين ) أي : لا توافقهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : المراد : ولو شئنا لخففنا عنك أعباء الرسالة إلى كل العالمين ، ولبعثنا في كل قرية نذيرا ، ولكنا قصرنا الأمر عليك وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل ، فقابل هذا الإجلال بالتشدد في الدين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الآية تقتضي مزج اللطف بالعنف ؛ لأنها تدل على القدرة على أن يبعث في كل قرية نذيرا مثل محمد ، وأنه لا حاجة بالحضرة الإلهية إلى محمد البتة ، وقوله : ( ولو ) يدل على أنه سبحانه لا يفعل ذلك ، فبالنظر إلى الأول يحصل التأديب ، وبالنظر إلى الثاني يحصل الإعزاز .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( فلا تطع الكافرين ) فالمراد نهيه عن طاعتهم ، ودلت هذه الآية على أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي عنه مشتغلا به .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله : ( وجاهدهم به جهادا كبيرا ) فقال بعضهم : المراد بذل الجهد في الأداء والدعاء . وقال بعضهم : المراد القتال . وقال آخرون : كلاهما ، والأقرب الأول ; لأن السورة مكية ، والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان ، وإنما قال : ( جهادا كبيرا ) لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لوجب على كل نذير مجاهدة قريته ، فاجتمعت على رسول الله تلك المجاهدات وكثر جهاده من أجل ذلك وعظم ، فقال له : ( وجاهدهم ) بسبب كونك نذير كافة القرى ( جهادا كبيرا ) جامعا لكل مجاهدة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية