الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وكان يصلي إلى قبلة بيت المقدس ، ويحب أن يصرف إلى الكعبة ، وقال لجبريل : ( وددت أن يصرف الله وجهي عن قبلة اليهود ، فقال : إنما أنا عبد ، فادع ربك واسأله ، فجعل يقلب وجهه في السماء يرجو ذلك ، حتى أنزل الله عليه : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ) [ البقرة : 144 ] ) وذلك بعد ستة عشر شهرا من مقدمه المدينة قبل وقعة بدر بشهرين .

قال محمد بن سعد : أخبرنا هاشم بن القاسم ، قال : أنبأنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : ( ما خالف نبي نبيا قط في قبلة ولا في سنة ، إلا أن [ ص: 60 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس حين قدم المدينة ستة عشر شهرا ، ثم قرأ : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ) ) [ الشورى : 13 ] .

وكان لله في جعل القبلة إلى بيت المقدس ثم تحويلها إلى الكعبة حكم عظيمة ، ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين .

فأما المسلمون فقالوا : سمعنا وأطعنا وقالوا : ( آمنا به كل من عند ربنا ) [ آل عمران : 7 ] وهم الذين هدى الله ، ولم تكن كبيرة عليهم .

وأما المشركون فقالوا : كما رجع إلى قبلتنا ، يوشك أن يرجع إلى ديننا ، وما رجع إليها إلا أنه الحق .

وأما اليهود فقالوا : خالف قبلة الأنبياء قبله ، ولو كان نبيا لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء .

وأما المنافقون فقالوا : ما يدري محمد أين يتوجه ، إن كانت الأولى حقا فقد تركها ، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل ، وكثرت أقاويل السفهاء من الناس ، وكانت كما قال الله تعالى : ( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) [ البقرة : 143 ] وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه .

ولما كان أمر القبلة وشأنها عظيما ، وطأ - سبحانه - قبلها أمر النسخ وقدرته عليه ، وأنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله ، ثم عقب ذلك بالتوبيخ لمن تعنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقد له ، ثم ذكر بعده اختلاف اليهود والنصارى ، وشهادة بعضهم على بعض بأنهم ليسوا على شيء ، وحذر عباده المؤمنين من موافقتهم واتباع أهوائهم ، ثم ذكر كفرهم وشركهم به ، وقولهم : إن له ولدا ، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا ، ثم أخبر أن له المشرق والمغرب ، وأينما يولي [ ص: 61 ] عباده وجوههم فثم وجهه ، وهو الواسع العليم ، فلعظمته وسعته وإحاطته أينما يوجه العبد ، فثم وجه الله .

ثم أخبر أنه لا يسأل رسوله عن أصحاب الجحيم الذين لا يتابعونه ولا يصدقونه ، ثم أعلمه أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ، وأنه إن فعل وقد أعاذه الله من ذلك فما له من الله من ولي ولا نصير ، ثم ذكر أهل الكتاب بنعمته عليهم ، وخوفهم من بأسه يوم القيامة ، ثم ذكر خليله باني بيته الحرام ، وأثنى عليه ومدحه ، وأخبر أنه جعله إماما للناس يأتم به أهل الأرض ، ثم ذكر بيته الحرام وبناء خليله له ، وفي ضمن هذا أن باني البيت كما هو إمام للناس فكذلك البيت الذي بناه إمام لهم ، ثم أخبر أنه لا يرغب عن ملة هذا الإمام إلا أسفه الناس ، ثم أمر عباده أن يأتموا برسوله الخاتم ، ويؤمنوا بما أنزل إليه وإلى إبراهيم وإلى سائر النبيين ، ثم رد على من قال : إن إبراهيم وأهل بيته كانوا هودا أو نصارى ، وجعل هذا كله توطئة ومقدمة بين يدي تحويل القبلة ، ومع هذا كله فقد كبر ذلك على الناس إلا من هدى الله منهم ، وأكد سبحانه هذا الأمر مرة بعد مرة بعد ثالثة ، وأمر به رسوله حيثما كان ومن حيث خرج ، وأخبر أن الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم هو الذي هداهم إلى هذه القبلة ، وأنها هي القبلة التي تليق بهم ، وهم أهلها لأنها أوسط القبل وأفضلها ، وهم أوسط الأمم وخيارهم ، فاختار أفضل القبل لأفضل الأمم ، كما اختار لهم أفضل الرسل وأفضل الكتب ، وأخرجهم في خير القرون ، وخصهم بأفضل الشرائع ، ومنحهم خير الأخلاق ، وأسكنهم خير الأرض ، وجعل منازلهم في الجنة خير المنازل ، وموقفهم في القيامة خير المواقف ، فهم على تل عال والناس تحتهم ، فسبحان من يختص برحمته من يشاء ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .

وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك لئلا يكون للناس عليهم حجة ، ولكن الظالمون الباغون يحتجون عليهم بتلك الحجج التي ذكرت ، ولا يعارض الملحدون الرسل [ ص: 62 ] إلا بها وبأمثالها من الحجج الداحضة ، وكل من قدم على أقوال الرسول سواها فحجته من جنس حجج هؤلاء .

وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك ليتم نعمته عليهم وليهديهم ، ثم ذكرهم نعمه عليهم بإرسال رسوله إليهم ، وإنزال كتابه عليهم ؛ ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، ثم أمرهم بذكره وبشكره ، إذ بهذين الأمرين يستوجبون إتمام نعمه والمزيد من كرامته ، ويستجلبون ذكره لهم ومحبته لهم ، ثم أمرهم بما لا يتم لهم ذلك إلا بالاستعانة به ، وهو الصبر والصلاة ، وأخبرهم أنه مع الصابرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية