الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب

الإشارة بـ "ذلك"؛ هي إلى جميع ما حد الله قبل؛ من حبس الشاهدين؛ من بعد الصلاة؛ لليمين؛ ثم إن عثر على جورهما؛ ردت اليمين؛ وغرما؛ فذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل؛ لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة؛ ثم يخافون الفضيحة؛ ورد اليمين؛ هذا قول ابن عباس - رضي الله عنهما -.

ويظهر من كلام السدي أن الإشارة بـ "ذلك"؛ إنما هي إلى الحبس من بعد الصلاة [ ص: 293 ] فقط؛ ثم يجيء قوله تعالى: أو يخافوا أن ترد أيمان ؛ بإزاء: فإن عثر ؛ الآية.

وجمع الضمير في "يأتوا"؛ و"يخافوا"؛ إذ المراد صنف ونوع من الناس؛ و"أو"؛ في هذه الآية على تأويل السدي بمنزلة قولك: "تجيئني يا زيد أو تسخطني"؛ كأنك تريد: "وإلا أسخطتني"؛ فكذلك معنى الآية: "ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها؛ وإلا خافوا رد الأيمان"؛ وأما على مذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - فالمعنى: "ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا؛ وأقرب إلى أن يخافوا".

وقوله تعالى: على وجهها ؛ معناه: "على جهتها القويمة التي لم تبدل؛ ولا حرفت".

ثم أمر تعالى بالتقوى؛ التي هي الاعتصام بالله ؛ وبالسمع لهذه الأمور المنجية؛ وأخبر أنه لا يهدي القوم الفاسقين؛ من حيث هم فاسقون؛ وإلا فهو تعالى يهديهم إذا تابوا؛ ويحتمل أن يكون لفظ "الفاسقين"؛ عاما؛ والمراد الخصوص فيمن لا يتوب.

وقوله تعالى: ويوم يجمع الله الرسل ؛ ذهب قوم من المفسرين إلى أن العامل في "يوم"؛ ما تقدم من قوله: "لا يهدي"؛ وذلك ضعيف؛ ورصف الآية وبراعتها إنما هو أن يكون هذا الكلام مستأنفا؛ والعامل مقدرا؛ إما: "اذكروا"؛ وإما: "تذكروا"؛ وإما: "احذروا"؛ ونحو هذا مما حسن اختصاره؛ لعلم السامع.

والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة؛ وخص الرسل بالذكر لأنهم قادة الخلق؛ وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق؛ وهم المكلمون أولا.

و "ماذا أجبتم"؛ معناه: "ماذا أجابت به الأمم؛ من إيمان؛ أو كفر؛ وطاعة؛ أو عصيان؟"؛ وهذا السؤال للأنبياء الرسل؛ إنما هو لتقوم الحجة على الأمم؛ ويبتدأ حسابهم على الواضح المستبين لكل مفطور.

واختلف الناس في معنى قولهم - عليهم السلام -: "لا علم لنا"؛ فقال الطبري : ذهلوا عن الجواب؛ لهول المطلع؛ وذكر عن الحسن أنه قال: لا علم لنا من هول ذلك اليوم؛ وعن السدي : نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول؛ فقالوا: لا علم لنا؛ ثم نزلوا منزلا آخر شهدوا على قومهم؛ وعن مجاهد أنه قال: يفزعون؛ فيقولون: لا علم لنا.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: [ ص: 294 ] وضعف بعض الناس هذا المنزع بقوله تعالى: لا يحزنهم الفزع الأكبر ؛ والأنبياء في أشد أهوال يوم القيامة؛ وحالة جواز الصراط يقولون: سلم؛ سلم؛ وحالهم أعظم؛ وفضل الله تعالى عليهم أكثر من أن تذهل عقولهم حتى يقولوا ما ليس بحق في نفسه.

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: معنى الآية: لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا حسن؛ كأن المعنى: لا علم لنا يكفي وينتهي إلى الغاية.

وقال ابن جريج : معنى "ماذا أجبتم": "ماذا عملوا بعدكم؟ وما أحدثوا؟"؛ فلذلك قالوا: لا علم لنا.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا معنى حسن في نفسه؛ ويؤيده قوله تعالى: إنك أنت علام الغيوب ؛ لكن لفظة "أجبتم"؛ لا تساعد قول ابن جريج ؛ إلا على كره؛ وقول ابن عباس أصوب هذه المناحي؛ لأنه يتخرج على التسليم لله تعالى؛ ورد الأمر إليه؛ إذ قوله: "ماذا أجبتم"؛ لا علم عندهم في جوابه إلا بما شوفهوا به مدة حياتهم؛ وينقصهم ما في قلوب المشافهين من نفاق؛ ونحوه؛ وكذلك ينقصهم ما كان بعدهم من أمتهم؛ والله تعالى يعلم جميع ذلك على التفصيل؛ والكمال؛ فرأوا التسليم له والخضوع لعلمه المحيط؛ وقرأ أبو حيوة: "ماذا أجبتم"؛ بفتح الهمزة.

التالي السابق


الخدمات العلمية