الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أخبر عنهم - سبحانه وتعالى - بهذا الذل؛ أتبعه الإخبار بأنه في كل زمان؛ وكل مكان؛ معاملة منه لهم بضد ما أرادوا؛ فعوضهم عن الحرص على الرئاسة إلزامهم الذلة؛ وعن الإخلاد إلى المال إسكانهم المسكنة؛ وأخبر أن ذلك لهم طوق الحمامة؛ غير مزائلهم إلى آخر الدهر؛ باق في أعقابهم بأفعالهم هذه التي لم ينابذهم فيها الأعقاب؛ فقال - سبحانه وتعالى – مستأنفا -: ضربت عليهم الذلة ؛ وهي الانقياد كرها؛ وأحاطت بهم كما يحيط البيت المضروب بساكنه؛ أينما ثقفوا ؛ أي [ ص: 29 ] وجدهم من هو حاذق؛ خفيف؛ فطن؛ في كل مكان؛ وعلى كل حال؛ إلا ؛ حال كونهم معتصمين؛ بحبل ؛ أي: عهد وثيق مسبب للأمان؛ وهو عهد الجزية؛ وما شاكله؛ من الله ؛ أي: الحائز لجميع العظمة؛ وحبل من الناس ؛ أي: قاطبة: الذين آمنوا وغيرهم؛ موافق لذلك الحبل الذي من الله - سبحانه وتعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الذل ربما كان مع الرضا؛ ولو من وجه؛ قال: وباءوا ؛ أي: رجعوا عما كانوا فيه من الحال الصالح؛ بغضب من الله ؛ الملك الأعظم؛ ملازم لهم؛ ولما كان الوصفان قد يصحبهما اليسار؛ قال: وضربت ؛ أي: مع ذلك عليهم ؛ أي: كما يضرب البيت؛ المسكنة ؛ أي: الفقر؛ ليكونوا بهذه الأوصاف أعرق شيء في الذل؛ فكأنه قيل: "لم استحقوا ذلك؟"؛ فقيل: ذلك ؛ أي: الإلزام لهم بما ذكر؛ بأنهم ؛ أي: أسلافهم الذين رضوا هم فعلهم؛ كانوا يكفرون ؛ أي: يجددون الكفر مع الاستمرار؛ بآيات الله أي: [ ص: 30 ] الملك الأعظم الذي له الكمال كله؛ وذلك أعظم الكفر؛ لمشاهدتهم لها؛ مع اشتمالها من العظم على ما يليق بالاسم الأعظم؛ ويقتلون الأنبياء ؛ أي: الآتين من عند الله - سبحانه وتعالى - حقا؛ على كثرتهم؛ بما دل عليه جمع التكسير؛ فهو أبلغ مما في أولها؛ الأبلغ مما في "البقرة"؛ ليكون ذمهم على سبيل الترقي؛ كما هي قاعدة الحكمة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانوا معصومين دينا؛ ودنيا؛ قال: بغير حق ؛ أي: يبيح قتلهم; ثم علل إقدامهم على هذا الكفر بقوله: ذلك ؛ أي: الكفر؛ والقتل العظيمان؛ بما عصوا وكانوا ؛ أي: جبلة؛ وطبعا؛ يعتدون ؛ أي: يجددون تكليف أنفسهم الاعتداء؛ فإن الإقدام على المعاصي؛ والاستهانة بمجاوزة الحدود يهون الكفر؛ فقال الأصفهاني: قال أرباب المعاملات: من ابتلي بترك الآداب؛ وقع في ترك السنن؛ ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفرائض؛ ومن ابتلي بترك الفرائض وقع في استحقار الشريعة؛ ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر؛ والآية دليل على مؤاخذة الابن الراضي بذنب الأب؛ وإن علا؛ وذلك طبق ما رأيته في ترجمة التوراة التي بين أيديهم الآن؛ قال في السفر الثاني: وقال الله - سبحانه [ ص: 31 ] وتعالى - جميع هذه الآيات؛ كلها: (أنا الرب؛ إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق؛ لا تكون لك آلهة أخرى؛ لا تعملن شيئا من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق؛ وفي الأرض من تحت؛ ومما في الماء أسفل الأرض؛ لا تسجدن لها؛ ولا تعبدنها؛ لأني أنا الرب؛ إلهك؛ إله غيور؛ أجازي الأبناء بذنوب الآباء؛ إلى ثلاثة أحقاب؛ وأربعة خلوف؛ وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحبائي؛ وحافظي وصاياي).

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية