الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ) الذي لهم به علم هو دينهم الذي وجدوه في كتبهم وثبت عندهم صحته ، والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم ودينه ، ليس موجودا في كتبهم ، ولا أتتهم به أنبياؤهم ، ولا شاهدوه فيعلموه . قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وغيرهم . وهو الظاهر لما حف به ، من قبله ومن بعده ، من الحديث في إبراهيم ، ونسب هذا القول إلى الطبري ابن عطية ، وقال : ذهب عنه أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة ; لأنهم يجدونه عند محمد - صلى الله عليه وسلم - كما كان هنالك على حقيقته .

وقيل : الذي لهم به علم هو أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنهم وجدوا نعته في كتبهم ، فجادلوا بالباطل . والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم . والظاهر في قوله : ( فيما لكم به علم ) إثبات العلم لهم . وقال ابن عطية : فيما لكم به علم على زعمكم ، وإنما المعنى : فيما يشبه دعواكم ، ويكون الدليل العقلي يرد عليكم . وقالقتادة أيضا : حاججتم فيما شهدتم ورأيتم ، فلم تحاجون فيما لم تشاهدوا ولم تعلموا ؟ وقال الرازي : ( ها أنتم هؤلاء ) الآية . أي : زعمتم أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن ، فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ؟ وهو ادعاؤهم أن شريعة إبراهيم مخالفة لشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم ؟ ، ويحتمل أن يكون قوله ( لكم به علم ) أي : تدعون علمه ، لا أنه وصفهم بالعلم حقيقة ، فكيف يحاجون فيما لا علم لهم به ألبتة . وقرأ الكوفيون ، و ابن عامر ، والبزي : ها أنتم ، بألف بعد الهاء بعدها همزة : أنتم ، محققة . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بهاء بعدها ألف بعدها همزة مسهلة بين بين ، وأبدل أناس هذه الهمزة ألفا محضة لورش : ها ، للتنبيه ; لأنه يكثر وجودها مع المضمرات المرفوعة مفصولا بينها ، وبين اسم الإشارة حيث لا استفهام ، وأصلها أن تباشر اسم الإشارة ، لكن اعتني بحرف التنبيه ، فقدم ، وذلك نحو قول العرب : ها أنا ذا قائما ، وها أنت ذا تصنع كذا . وها هو ذا قائما . ولم ينبه المخاطب هنا على وجود ذاته ، بل نبه على حال غفل عنها لشغفه بما التبس به ، وتلك الحالة هي أنهم حاجوا فيما لا يعلمون ، ولم ترد به التوراة والإنجيل ، فتقول لهم : هب أنكم تحتجون فيما تدعون أن قد ورد به كتب الله المتقدمة ، فلم تحتجون فيما ليس كذلك ؟ وتكون الجملة خبرية [ ص: 486 ] وهو الأصل ، لأنه قد صدرت منهم المحاجة فيما يعلمون ، ولذاك أنكر عليهم بعد المحاجة فيما ليس لهم به علم ، وعلى هذا يكون : ها ، قد أعيدت مع اسم الإشارة توكيدا ، وتكون في قراءة قنبل قد حذف ألف : ها ، كما حذفها من وقف على : ( أيه الثقلان ) يا أيه بالسكون ، وليس الحذف فيها يقوى في القياس . وقال أبو عمرو ابن العلاء ، وأبو الحسن الأخفش : الأصل في : ها أنتم ، أأنتم . فأبدل من الهمزة الأولى التي للاستفهام هاء ; لأنها أختها ، واستحسنه النحاس . وإبدال الهمزة هاء مسموع في كلمات ولا ينقاس ، ولم يسمع ذلك في همزة الاستفهام ، لا يحفظ من كلامهم : هتضرب زيدا ، بمعنى : زيدا إلا في بيت نادر جاءت فيه : ها ، بدل همزة الاستفهام ، وهو :


وأتت صواحبها وقلن هذا الذي منح المودة غيرنا وجفانا



ثم الفصل بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام وهمزة أنتم ، لا يناسب ; لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين ، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى هاء ، ألا ترى أنهم حذفوا الهمزة في نحو : أريقه ، إذ أصله : أأريقه ؟ فلما أبدلوها هاء لم يحذفوا ، بل قالوا : أهريقه . وقد وجهوا قراءة قنبل على أن الهاء بدل من همزة الاستفهام لكونها هاء لا ألف بعدها ، وعلى هذا من أثبت الألف ، فيكون عنده فاصلة بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام ، وبين همزة أنتم ، أجرى البدل في الفصل مجرى المبدل منه ، والاستفهام على هذا معناه التعجب من حماقتهم . وأما من سهل ، فلأنها همزة بعد ألف على حد تسهيلهم إياها في هيأه . وأما تحقيقها فهو الأصل ، وأما إبدالها ألفا فقد تقدم الكلام في ذلك في قوله ( أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) .

و : أنتم ، مبتدأ ، وهؤلاء : الخبر . وحاججتم : جملة حالية . كقول : ها أنت ذا قائما . وهي من الأحوال التي ليست يستغنى عنها ، كقوله : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون ) على أحسن الوجوه في إعرابه . وقال الزمخشري : " أنتم " مبتدأ ، وهؤلاء : خبره ، وحاججتم : جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى ، يعني : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى ، وبيان حماقتكم ، وقلة عقولكم ، أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم ؟ انتهى .

وأجازوا أن يكون : هؤلاء بدلا وعطف بيان ، والخبر : حاججتم ، وأجازوا أن يكون : هؤلاء موصولا بمعنى الذي ، وهو خبر المبتدأ ، أو : حاججتم صلته . وهذا على رأي الكوفيين . وأجازوا أيضا أن يكون منادى أي : يا هؤلاء ، وحذف منه حرف النداء ، ولا يجوز حذف حرف النداء من المشار على مذهب البصريين ، ويجوز على مذهب الكوفيين ، وقد جاء في الشعر حذفه ، وهو قليل ، نحو قول رجل من طيئ :


إن الألى وصفوا قومي لهم فهم     هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا



وقال :


لا يغرنكم أولاء من القو     م جنوح للسلم فهو خداع



يريد : يا هذا اعتصم ، ويا أولاء .

( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) أي : يعلم دين إبراهيم الذي حاججتم فيه ، وكيف حال الشرائع في الموافقة والمخالفة ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، وهو تأكيد لما قبله من نفي العلم عنهم في شأن إبراهيم ، وفي قوله : والله يعلم ، استدعاء لهم أن يسمعوا ، كما تقول لمن تخبره بشيء لا يعلمه : اسمع فإني أعلم ما لا تعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية