الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2303 [ ص: 543 ] 8 - باب: لا يحتلب أحد ماشية أحد بغير إذنه

                                                                                                                                                                                                                              2435 - حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحلبن أحد ماشية امرئ بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته، فينتقل طعامه؟ فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه". [ مسلم: 1726 - فتح: 5 \ 88]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحلبن أحد ماشية امرئ بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته، فينتقل طعامه؟ فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ".

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه مسلم أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              ويحمل هذا الحديث على ما لا تطيب به النفس لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " وقال أيضا: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ".

                                                                                                                                                                                                                              وإن اختص اللبن بالذكر لتساهل الناس في تناوله، ولا فرق بين اللبن والتمر وغيرهما في ذلك إلا المضطر الذي لا يجد ميتة ويجد [ ص: 544 ] طعام غيره فيأكل الطعام للضرورة ويلزمه بدله لمالكه. وذهب الجمهور إلى أنه لا يحل شيء من لبن الماشية ولا من التمر إلا إذا علم طيب نفس صاحبه.

                                                                                                                                                                                                                              وذهب بعض المحدثين إلى أن ذلك يحل وإن لم يعلم حال صاحبه؛ لأن ذلك حق جعله الشارع، يريد حديث أبي داود من طريق الحسن عن سمرة مرفوعا: "إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب ويشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا، فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له وإلا فليحتلب ويشرب ولا يحمل".

                                                                                                                                                                                                                              وفي الترمذي من حديث يحيى بن سليم عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه - عليه السلام - سئل عن الثمر المعلق، فقال: "من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه"، ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم.

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده سئل رسول الله عن الثمر المعلق فذكر مثله، ثم حسنه ورده القرطبي، فقال: لا حجة فيه لأوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: أن التمسك بالقاعدة المعلومة أولى. [ ص: 545 ]

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: أن حديث النهي أصح.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: أن ذلك محمول على ما إذا علم طيب نفوس أرباب الأموال بالعادة أو بغيرها.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: أن ذلك محمول على أوقات الضرورات كما كان في أول الإسلام. ونقل ابن بطال إجماع العلماء على أنه لا يجوز كسر قفل مسلم ولا ذمي ولا أخذ شيء من ماله بغير إذنه، يشبه الشارع اللبن في الضرع بالطعام المخزون تحت الأقفال، وهذا هو قياس الأشياء على نظائرها وأشباهها أرانا به قياس الأمور إذا تشابهت معانيها، فوجب امتثال ذلك واستعماله؛ خلافا لقول من أبطل القياس ولا يتشاغل به.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى قوله: " أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته " أن يكره المسلم لأخيه المسلم ما يكرهه لنفسه، وهذا في معنى قوله: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ".

                                                                                                                                                                                                                              وأكثر العلماء على إجازة أكل مال الصديق إذا كان تافها لا يتشاح في مثله . وإن كان ذلك بغير إذنه ما لم يكن تحت قفله. و (المشربة) بضم الراء وفتحها وهي الموضع المصون لما يخزن فيه كالغرفة يخزن الرجل فيها متاعه فشبه ضروع الغنم بها. وقال ابن قتيبة: كالصفة بين يدي الغرفة.

                                                                                                                                                                                                                              والخزانة: - بكسر الخاء المعجمة -: الموضع أو الوعاء الذي يخزن فيه الشيء، أي: يغيب، وسمي الوعاء خزانة؛ لأنه يخزن فيه. [ ص: 546 ]

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فينتثل) هو بمثناة ثم نون ثم مثناة فوق ثم مثلثة، وبخط الدمياطي بالقاف بدلها ثم لام، أي: ينتثر، يقال: نثلت الشيء بمعنى: نثرته مرة واحدة، يقال: نثل ما في كنانته إذا صبها ونثرها، ولما حكى النووي المقالة السالفة عن بعض المحدثين عزاها لبعض السلف أيضا، وحكاها في أنه لا يلزمه البدل ثم ضعفه.

                                                                                                                                                                                                                              (فإن قلت): كيف شرب الصديق من غنم الراعي حين الهجرة وأعطاه الشارع أيضا كما سيأتي؟

                                                                                                                                                                                                                              قلت: ذاك من باب الإدلال على صاحبها لمعرفته إياه، أو أنه كان يعلم أنه أذن للراعي أنه يسقي منه من مر به، أو أنه كان عرفه أنه أباح ذلك، أو أنه مال حربي لا أمان له.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن أبي صفرة : حديث الهجرة في زمن المكارمة وهذا في زمن التشاح لما علم - عليه السلام - من تغير الأحوال بعده، أو أن هذا الحديث محمول على التسور والاختلاس.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث الهجرة لم يتسور الشارع ولا الصديق، وإنما سأل الصديق الراعي هل أنت حالب لنا؟ والراعي في المال له عادة العرب، فلذلك أجاز - عليه السلام - شرب ما حلبه. وكذلك عادة العرب في الحلب على الماء، ولابن السبيل مباحة، وكل مسترعى له مثل ذلك في الذي استرعي، كالمرأة في بيت زوجها تعطي اللقمة من ماله والتمرات والكف، وقال - عليه السلام -: "إنها أحد المتصدقين".

                                                                                                                                                                                                                              وقال أشهب : خرجنا مرابطين للإسكندرية فمررنا بجنان الليث بن [ ص: 547 ] سعد فأكلنا من التمر، فلما رجعت دعتني نفسي أن أستحل ذلك من الليث، فدخلت إليه فأخبرته بذلك، فقال: يا ابن أخي، لقد نسكت نسكا أعجميا، أما سمعت الله يقول: أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا [النور: 61]. فلا بأس أن يأكل الرجل من مال أخيه الشيء التافه يسره بذلك. وروى ابن وهب، عن مالك في الرجل يدخل الحائط فيجد التمر ساقطا، قال: لا يأكل منه إلا أن يعلم أن صاحب الحائط طيب النفس به أو يكون محتاجا إلى ذلك فأرجو أن لا يكون به بأس.

                                                                                                                                                                                                                              ومن فوائده: إباحة خزن الطعام واحتكاره؛ خلافا لغلاة المتزهدة حيث يقولون: لا يجوز الادخار مطلقا.

                                                                                                                                                                                                                              وأن اللبن يسمى طعاما فيحنث به من حلف لا يتناول طعاما إلا أن يكون له نية تخرج اللبن. وأن من حلب من ضرع شاة أو بقرة أو ناقة بعد أن تكون في حرزها ما يبلغ قيمته ما يجب فيه القطع أن عليه القطع؛ لأن الحديث أفصح بأن ضروع الأنعام خزائن الطعام، ومعلوم أن من فتح خزانة غيره أو كسرها فاستخرج منها من المال أو الطعام أو غيره شيئا يجب فيه القطع، قطع بلا خلاف إلا على قول من لا يرى القطع في الأطعمة الرطبة والفواكه.

                                                                                                                                                                                                                              وبيع الشاة اللبون بالطعام عملا بقوله: "فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم"، فجعل اللبن طعاما، وقد اختلف الفقهاء في بيع الشاة اللبون باللبن وسائر الطعام نقدا أو إلى أجل، فذهب مالك وأصحابه إلى أنه لا بأس بالشاة اللبون باللبن يدا بيد ما لم يكن في [ ص: 548 ] ضرعها لبن، فإن كان في ضرعها لبن لم يجز يدا بيد باللبن من أجل المزابنة، فإن كانت الشاة غير لبون جاز في ذلك الأجل وفي غير الأجل.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما: لا يجوز بيع الشاة اللبون بالطعام إلى أجل، ولا يجوز عند الشافعي بيع شاة في ضرعها لبن بشيء من اللبن يدا بيد ولا إلى أجل.

                                                                                                                                                                                                                              خاتمة:

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي : إنما شرب الشارع والصديق؛ لأنهما ابنا سبيل ولهما شرب ذلك إذا احتاجا إليه، وهذا قد أسلفته، قال: وإنما أتى بهذا الحديث والآتي لما في الأموال من الحقوق غير الزكاة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية