الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون هذه حالة أخرى من أحوال أهل النفاق هي توليهم اليهود مع أنهم ليسوا من أهل ملتهم لأن المنافقين من أهل الشرك .

[ ص: 48 ] والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لأنها عود إلى الغرض الذي سبقت فيه آيات إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا بعد أن فصل بمستطردات كثيرة بعده .

والقوم الذين غضب الله عليهم هم اليهود وقد عرفوا بما يرادف هذا الوصف في القرآن في قوله غير المغضوب عليهم .

والاستفهام تعجيبي مثل قوله ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى .

ووجه التعجيب من حالهم أنهم تولوا قوما من غير جنسهم وليسوا في دينهم ما حملهم على توليهم إلا اشتراك الفريقين في عداوة الإسلام والمسلمين .

وضمير ما هم يحتمل أن يعود إلى الذين تولوا وهم المنافقون فيكون جملة ما هم منكم ولا منهم حالا من الذين تولوا ، أي ما هم مسلمون ولا يهود . ويجوز أن يعود الضمير إلى قوم وهم اليهود . فتكون جملة ما هم منكم صفة " قوما " ، قوما ليسوا مسلمين ولا مشركين بل هم يهود .

وكذلك ضمير ولا منهم يحتمل الأمرين على التعاكس وكلا الاحتمالين واقع ، ومراد على طريقة الكلام الموجه تكثيرا للمعاني مع الإيجاز فيفيد التعجيب من حال المنافقين أن يتولوا قوما أجانب عنهم على قوم هم أيضا أجانب عنهم ، على أنهم إن كان يفرق بينهم وبين المسلمين اختلاف الدين فإن الذي يفرق بينهم وبين اليهود اختلاف الدين واختلاف النسب لأن المنافقين من أهل يثرب عرب ويفيد بالاحتمال الآخر الإخبار عن المنافقين بأن إسلامهم ليس صادقا ، أي ما هم منكم أيها المسلمون ، وهو المقصود ، ويكون قوله ولا منهم على هذا الاحتمال احتراسا وتتميما لحكاية حالهم ، وعلى هذا الاحتمال يكون ذم المنافقين أشد لأنه يدل على حماقتهم إذ جعلوا لهم أولياء من ليسوا على دينهم فهم لا يوثق بولايتهم وأضمروا بغض المسلمين فلم يصادفوا الدين الحق .

ويحلفون على الكذب عطف على تولوا وجيء به مضارعا للدلالة على تجدده ولاستحضار الحالة العجيبة في حين حلفهم على الكذب للتنصل مما فعلوه ، والكذب الخبر المخالف للواقع وهي الأخبار التي يخبرون بها عن أنفسهم في نفي ما يصدر منهم في جانب المسلمين .

[ ص: 49 ] وهم يعلمون جملة في موضع الحال ، وذلك أدخل في التعجيب لأنه أشنع من الحلف على الكذب لعدم التثبت في المحلوف عليه .

وأشار هذا إلى ما كان يحلفه المنافقون للنبيء - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين إذا كشف لهم بعض مكائدهم ، ومن ذلك قول الله تعالى فيهم ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ، وقوله يحلفون بالله لكم ليرضوكم وقوله يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر .

قال السدي ومقاتل : نزلت في عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل - بنون فباء موحدة فمثناة فوقية - كان أحدهما وهو عبد الله بن نبتل يجالس النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، ويرفع أخباره إلى اليهود ويسب النبيء - صلى الله عليه وسلم - فإذا بلغ خبره أو أطلعه الله عليه جاء فاعتذر وأقسم إنه ما فعل .

وجملة إنهم ساء ما كانوا يعملون تعليل لإعداد العذاب لهم ، أي أنهم عملوا فيما مضى أعمالا سيئة متطاولة متكررة كما يؤذن بها المضارع من قوله يعملون .

وبين ( يعملون ) ، و ( يعلمون ) الجناس المقلوب قلب بعض .

التالي السابق


الخدمات العلمية