الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب بيع المزابنة وهي بيع الثمر بالتمر وبيع الزبيب بالكرم وبيع العرايا قال أنس نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة

                                                                                                                                                                                                        2072 حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه ولا تبيعوا الثمر بالتمر قال سالم وأخبرني عبد الله عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غيره [ ص: 449 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 449 ] قوله : ( باب بيع المزابنة ) بالزاي والموحدة والنون ، مفاعلة من الزبن بفتح الزاي وسكون الموحدة وهو الدفع الشديد ، ومنه سميت الحرب الزبون لشدة الدفع فيها ، وقيل : للبيع المخصوص المزابنة ؛ لأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه ، أو لأن أحدهما إذا وقف على ما فيه من الغبن أراد دفع البيع بفسخه ، وأراد الآخر دفعه عن هذه الإرادة بإمضاء البيع .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وهي بيع التمر بالمثناة والسكون ( بالثمر ) بالمثلثة وفتح الميم ، والمراد به الرطب خاصة .

                                                                                                                                                                                                        وقوله : " بيع الزبيب بالكرم " ) أي : بالعنب وهذا أصل المزابنة ، وألحق الشافعي بذلك كل بيع مجهول بمجهول ، أو بمعلوم من جنس يجري الربا في نقده قال : وأما من قال : أضمن لك صبرتك هذه بعشرين صاعا مثلا فما زاد فلي وما نقص فعلي ، فهو من القمار وليس من المزابنة .

                                                                                                                                                                                                        قلت : لكن تقدم في " باب بيع الزبيب بالزبيب " من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر " والمزابنة أن يبيع الثمر بكيل إن زاد فلي وإن نقص فعلي " فثبت أن من صور المزابنة أيضا هذه الصورة من القمار ، ولا يلزم من كونها قمارا أن لا تسمى مزابنة .

                                                                                                                                                                                                        ومن صور المزابنة أيضا بيع الزرع بالحنطة كيلا ، وقد رواه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ : " والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا ، وبيع العنب بالزبيب كيلا ، وبيع الزرع بالحنطة كيلا " وستأتي هذه الزيادة للمصنف من طريق الليث عن نافع بعد أبواب . وقال مالك : المزابنة كل شيء من الجزاف لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده إذا بيع بشيء مسمى من الكيل وغيره ، سواء كان من جنس يجري الربا في نقده أم لا . وسبب النهي عنه ما يدخله من القمار والغرر ، قال ابن عبد البر : نظر مالك إلى معنى المزابنة [ ص: 450 ] لغة - وهي المدافعة - ويدخل فيها القمار والمخاطرة ، وفسر بعضهم المزابنة بأنها بيع الثمر قبل بدو صلاحه ، وهو خطأ فالمغايرة بينهما ظاهرة من أول حديث في هذا الباب . وقيل : هي المزارعة على الجزء وقيل : غير ذلك ، والذي تدل عليه الأحاديث في تفسيرها أولى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال أنس . . . إلخ ) يأتي موصولا في " باب بيع المخاضرة " وفيه تفسير المحاقلة . ثم أورد المصنف حديث ابن عمر من رواية ابنه سالم ومن رواية نافع كلاهما عنه ، ثم حديث أبي سعيد في ذلك . وفي طريق نافع تفسير المزابنة ، وظاهره أنها من المرفوع . ومثله في حديث أبي سعيد في الباب ، وأخرجه مسلم من حديث جابر كذلك ، ويؤيد كونه مرفوعا رواية سالم وإن لم يتعرض فيها لذكر المزابنة ، وعلى تقدير أن يكون التفسير من هؤلاء الصحابة فهم أعرف بتفسيره من غيرهم . وقال ابن عبد البر : لا مخالف لهم في أن مثل هذا مزابنة ، وإنما اختلفوا هل يلتحق بذلك كل ما لا يجوز إلا مثلا بمثل فلا يجوز فيه كيل بجزاف ولا جزاف بجزاف؟ فالجمهور على الإلحاق . وقيل : يختص ذلك بالنخل والكرم . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال سالم ) هو موصول بالإسناد المذكور ، وقد أفرد حديث زيد بن ثابت في آخر الباب من طريق نافع عن ابن عمر عنه ، وقد تقدم قبل أبواب من وجه آخر عن نافع مضموما في سياق واحد ، وأخرجه الترمذي من طريق محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت ولم يفصل حديث ابن عمر من حديث زيد بن ثابت ، وأشار الترمذي إلى أنه وهم فيه والصواب التفصيل ، ولفظ الترمذي : " عن زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المحاقلة والمزابنة ، إلا أنه قد أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بمثل خرصها " ومراد الترمذي أن التصريح بالنهي عن المزابنة لم يرد في حديث زيد بن ثابت وإنما رواه ابن عمر بغير واسطة ، وروى ابن عمر استثناء العرايا بواسطة زيد بن ثابت ، فإن كانت رواية ابن إسحاق محفوظة احتمل أن يكون ابن عمر حمل الحديث كله عن زيد بن ثابت وكان عنده بعضه بغير واسطة ، واستدل بأحاديث الباب على تحريم بيع الرطب باليابس منه ولو تساويا في الكيل والوزن ؛ لأن الاعتبار بالتساوي إنما يصح حالة الكمال ، والرطب قد ينقص إذا جف عن اليابس نقصا لا يتقدر وهو قول الجمهور ، وعن أبي حنيفة الاكتفاء بالمساواة حالة الرطوبة ، وخالفه صاحباه في ذلك لصحة الأحاديث الواردة في النهي عن ذلك ، وأصرح من ذلك حديث سعد بن أبي وقاص : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا : نعم . قال : فلا إذا " أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( رخص بعد ذلك ) أي : بعد النهي عن بيع التمر بالثمر ( في بيع العرايا ) وهذا من أصرح ما ورد في الرد على من حمل من الحنفية النهي عن بيع الثمر بالتمر على عمومه ومنع أن يكون بيع العرايا مستثنى منه وزعم أنهما حكمان مختلفان وردا في سياق واحد ، وكذلك من زعم منهم كما حكاه ابن المنذر عنهم أن بيع العرايا منسوخ بالنهي عن بيع الثمر بالتمر لأن المنسوخ لا يكون بعد الناسخ .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بالرطب أو بالتمر ) كذا عند البخاري ومسلم من رواية عقيل عن الزهري بلفظ " أو " وهي محتملة أن تكون للتخيير وأن تكون للشك ، وأخرجه النسائي والطبراني من طريق صالح بن كيسان والبيهقي من طريق الأوزاعي كلاهما عن الزهري بلفظ : " بالرطب وبالتمر ولم يرخص في غير ذلك " هكذا ذكره [ ص: 451 ] بالواو وهذا يؤيد كون " أو " بمعنى التخيير لا الشك بخلاف ما جزم به النووي . وكذلك أخرجه أبو داود من طريق الزهري أيضا عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه وإسناده صحيح ، وليس هو اختلافا على الزهري فإن ابن وهب رواه عن يونس عن الزهري بالإسنادين أخرجهما النسائي وفرقهما ، وإذا ثبتت هذه الرواية كانت فيها حجة للوجه الصائر إلى جواز بيع الرطب المخروص على رءوس النخل بالرطب المخروص أيضا على الأرض وهو رأي ابن خيران من الشافعية ، وقيل : لا يجوز وهو رأي الإصطخري وصححه جماعة ، وقيل : إن كانا نوعا واحدا لم يجز إذ لا حاجة إليه ، وإن كان نوعين جاز وهو رأي أبي إسحاق وصححه ابن أبي عصرون ، وهذا كله فيما إذا كان أحدهما على النخل والآخر على الأرض ، وقيل : ومثله ما إذا كانا معا على النخل ، وقيل : إن محله فيما إذا كانا نوعين ، وفي ذلك فروع أخر يطول ذكرها . وصرح الماوردي بإلحاق البسر في ذلك بالرطب .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية