الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الأول بين الشهادة والرواية ) ابتدأت بهذا الفرق بين هاتين القاعدتين لأني أقمت أطلبه نحو ثمان سنين فلم أظفر به ، وأسأل الفضلاء عن الفرق بينهما وتحقيق ماهية كل واحدة منهما فإن كل واحدة منهما خبر فيقولون الفرق بينهما أن الشهادة يشترط فيها العدد والذكورية والحرية بخلاف [ ص: 5 ] الرواية فإنها تصح من الواحد والمرأة والعبد فأقول لهم اشتراط ذلك فيها فرع تصورها وتمييزها عن الرواية فلو عرفت بأحكامها وآثارها التي لا تعرف إلا بعد معرفتها لزم الدور وإذا وقعت لنا حادثة غير منصوصة من أين لنا أنها شهادة حتى يشترط فيها ذلك فلعلها من باب الرواية التي لا يشترط فيها ذلك فالضرورة داعية لتمييزهما ، وكذلك إذا رأينا الخلاف في إثبات شهر رمضان هل يكتفى فيه بشاهد أم لا بد من شاهدين ، ويقول الفقهاء في تصانيفهم منشأ الخلاف في ذلك هل هو من باب الرواية أو من باب الشهادة .

وكذلك إذا أخبره عدل بعدد ما صلى قالوا ذلك بعينه ، وأجروا الخلاف فيهما لم تتصور حقيقة الشهادة والرواية وتميز كل واحدة منهما عن الأخرى لا يعلم اجتماع الشائبتين منهما في هذه الفروع ، ولا يعلم أي الشائبتين أقوى حتى يرجح مذهب القائل بترجيحها ، ولعل أحد القائلين ليس مصيبا وليس في الفروع إلا إحدى الشائبتين أو أحد الشبهين والآخر منفي أو الشبهان معا منفيان ، والقول بتردد هذه الفروع بينهما ليس صوابا بل يكون الفرع مخرجا على قاعدة أخرى غير هاتين ، وهذا جميعه إنما يتلخص إذا علمت حقيقة كل واحدة منهما من حيث هي هي فحينئذ يتصور هنا اشتراط العدد ، ولا يقبل في ذلك الفرع العدل الواحد ويعتقد أنه مخرج على الشبهين المذكورين وأي القولين أرجح إما مع الجهل بحقيقتهما فلا يتأتى شيء من ذلك ، وتبقى هذه الفروع مظلمة ملتبسة علينا ، ولم أزل كذلك كثير القلق والتشوف إلى معرفته ذلك حتى طالعت شرح البرهان للمازري رضي الله عنه فوجدته ذكر هذه القاعدة وحققها وميز بين الأمرين من حيث هما ، واتجه تخريج تلك الفروع اتجاها حسنا .

وظهر أي الشبهين أقوى ، وأي القولين أرجح ، وأمكننا من قبل أنفسنا إذا وجدنا خلافا محكيا ولم يذكر سبب الخلاف فيه أن نخرجه على وجود الشبهين فيه إن وجدناهما ونشترط ما نشترطه ونسقط ما نسقطه ، ونحن على بصيرة في ذلك كله ، فقال رحمه الله الشهادة والرواية خبران غير أن المخبر عنه إن كان أمرا عاما لا يختص بمعين فهو الرواية كقوله عليه الصلاة والسلام { إنما الأعمال بالنيات } والشفعة فيما لا يقسم لا يختص بشخص معين بل ذلك على جميع الخلق في جميع الأعصار والأمصار بخلاف قول العدل عند الحاكم لهذا عند هذا دينار إلزام لمعين لا يتعداه إلى غيره فهذا هو الشهادة المحضة ، والأول هو الرواية المحضة ثم تجتمع الشوائب بعد ذلك [ ص: 6 ] ووجه المناسبة بين الشهادة واشتراط العدد حينئذ وبقية الشروط أن إلزام المعين تتوقع فيه عداوة باطنية لم يطلع عليها الحاكم فتبعث العدو على إلزام عدوه ما لم يكن لازما له .

فاحتاط الشارع لذلك واشترط معه آخر إبعادا لهذا الاحتمال ، فإذا اتفقا في المقال قرب الصدق جدا بخلاف الواحد ويناسب أيضا اشتراط الذكورية من وجهين : أحدهما أن إلزام المعين سلطان وغلبة وقهر واستيلاء تأباه النفوس الأبية وتمنعه الحمية وهو من النساء أشد نكاية لنقصانهن فإن استيلاء الناقص أشد في ضرر الاستيلاء فخفف ذلك عن النفوس بدفع الأنوثة الثاني أن النساء ناقصات عقل ودين فناسب أن لا ينصبن نصبا عاما في موارد الشهادات [ ص: 7 ] لئلا يعم ضررهن بالنسيان والغلط بخلاف الرواية ؛ لأن الأمور العامة تتأسى فيها النفوس ويتسلى بعضها ببعض فيخف الألم وتقع المشاركة غالبا في الرواية لعموم التكليف والحاجة ، فيروى مع المرأة غيرها فيبعد احتمال الغلط ويطول الزمان في الكشف عن ذلك إلى يوم القيامة ، فيظهر مع طول السنين خلل إن كان بخلاف الشهادة تنقضي بانقضاء زمانها ، وتنسى بذهاب أوانها فلا يطلع على غلطها ونسيانها ولا يتهم أحد في عداوة جميع الخلق إلى يوم القيامة فلا يحتاج إلى الاستظهار بالغير فيكفي الواحد .

وأما الحرية فلأن النفوس الأبية تأبى قهرها بالعبيد الأدنى ، ويخف ذلك عليها بالأحرار وسراة الناس ، ولأن الرق يوجب الضغائن والأحقاد بسبب ما فات من الحرية والاستقلال بالكسب والمنافع فربما بعثه ذلك على الكذب على المعين وإذايته ، وذلك للخلائق يبعد القصد إليه في مجاري العادات فهذا تحقيق البابين .

ووجه المناسبة في الاشتراط في الشهادة دون الرواية وحينئذ نقول [ ص: 8 ] الخبر ثلاثة أقسام رواية محضة كالأحاديث النبوية وشهادة محضة كإخبار الشهود عن الحقوق على المعينين عند الحاكم ومركب من الشهادة والرواية وله صور أحدها الإخبار عن رؤية هلال رمضان من جهة أن الصوم لا يختص بشخص معين بل عام على جميع المصر أو أهل الآفاق على الخلاف في أنه هل يشترط في كل قوم رؤيتهم أم لا فهو من هذا الوجه رواية لعدم الاختصاص بمعين وعموم الحكم ومن جهة أنه حكم يختص بهذا العام دون ما قبله وما بعده وبهذا القرن من الناس دون القرون الماضية والآتية صار فيه خصوص وعدم عموم فأشبه الشهادة .

وحصل الشبهان فجرى الخلاف وأمكن ترجيح أحد الشبهين على الآخر ، واتجه الفقه في المذهبين فإن عضد أحد الشبهين حديث أو قياس تعين المصير إليه

وثانيها القائف في إثبات الأنساب بالخلق هل يشترط فيه العدد أم لا قولان لحصول الشبهين من جهة أنه يخبر أن زيدا ابن عمر وليس ابن خالد وهو حكم جرى على شخص معين لا يتعداه إلى غيره فأشبه الشهادة فيشترط العدد ومن جهة أن القائف منتصب انتصابا عاما للناس أجمعين أشبه الرواية فيكفي الواحد غير أن شبه الشهادة هنا أقوى للقضاء على المعين وتوقع العداوة والتهمة في الشخص المعين ، وكونه منتصبا انتصابا عاما مشترك بينه وبين الشاهد فإنه منتصب لكل من تتعين [ ص: 9 ] عليه شهادة يؤديها عند الحاكم ، فهذا الشبه ضعيف فإن قلت : الفرق بينه وبين الشاهد أن القائف يختص بقبيلة معينة وهم بنو مدلج فينصب الحاكم منهم من يراه أهلا لذلك فدخول نصب الحاكم لذلك واجتهاده وتوسط نظره يبعد احتمال العداوة ويخفف الضغينة في قلب المحكوم عليه بخلاف الشاهد فإن من تعينت عليه شهادة أداها وإن كان مجهولا عند الحاكم ، ويأتي من يزكيه وينفذ الحكم ولا يتوسط نظر الحاكم فتقوى داعية العداوة وتنفر النفوس من سلطنة المخبر عليها بالإلزام قلت هو فرق حسن وهو المستند لمعتقدي ترجيح شبه الرواية غير أن الفرق قد رجح في النفس إضافة الحكم إلى المشترك دونه لقوته ألا ترى أن القائف قد يقبل قوله من غير نصب الإمام لذلك الشخص كما { قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قول مجزز المدلجي في نسب أسامة بن زيد } ولم ينقل لنا أنه نصبه لذلك ، ولو وجد من الناس أو من القبائل في عصر من الأعصار من يودعه الله تعالى تلك الخاصية التي أودعها في بني مدلج قبل قوله أيضا فعلمنا أن عند كثرة البحث والكشف تقوى شائبة الشهادة ، وهذا البحث كله وهذا الترجيح إنما تمكنا منه عند معرفتنا بحقيقة الشهادة والرواية من حيث هما ولو لم يحصل كلام المازري صعب علينا ذلك ، وانسد الباب وانحسم الفقه ورجعنا إلى التقليد الصرف الذي لا يعقل معناه وثالثها المترجم للفتاوى والخطوط .

قال مالك : يكفي الواحد وقيل لا بد من اثنين ومنشأ الخلاف حصول الشبهين أما شبه الرواية فلأنه نصب نصبا عاما للناس أجمعين لا يختص نصبه بمعين .

وأما شبه الشهادة فلأنه يخبر عن معين من الفتاوى والخطوط لا يتعدى إخباره ذلك الخط المعين أو الكلام المعين ويأتي السؤال بالفارق المتقدم والبحث بعينه في القائف ، ورابعها المقوم للسلع وأروش الجنايات والسرقات والغصوب وغيرها .

قال مالك يكفي الواحد في التقويم إلا أن يتعلق بالقيم حد كالسرقة فلا بد من اثنين وروي لا بد من اثنين في كل موضع ومنشأ الخلاف حصول ثلاثة أشباه : شبه الشهادة لأنه إلزام لمعين وهو ظاهر وشبه الرواية ؛ لأن المقوم متصد لما لا يتناهى كما تقدم في المترجم والقائف وهو ضعيف ؛ لأن [ ص: 10 ] الشاهد كذلك وشبه الحاكم لأن حكمه ينفذ في القيمة ، والحاكم ينفذه وهو أظهر من شبه الرواية فإن تعلق بإخباره حد تعين مراعاة الشهادة لوجهين : أحدهما قوة ما يفضي إليه هذا الإخبار وينبني عليه من إباحة عضو آدمي معصوم ، وثانيهما أن الخلاف في كونه رواية أو شهادة شبهة يدرأ بها الحد ، وخامسها القاسم قال مالك يكفي الواحد والأحسن اثنان .

وقال أبو إسحاق التونسي لا بد من اثنين وللشافعية في ذلك قولان ومنشأ الخلاف شبه الحكم أو الرواية أو الشهادة والأظهر شبه الحكم ؛ لأن الحاكم استنابه في ذلك وهو المشهور عندنا وعند الشافعية أيضا وسادسها إذا أخبره عدل بعدد ما صلى هل يكتفى فيه بالواحد أم لا بد من اثنين وشبه الحاكم هنا منتف فإن قضايا الحاكم لا تدخل في العبادات بل شبه الرواية أو الشهادة .

أما الرواية فلأنه لم يخبره عن إلزام حكم لمخلوق عليه بل الحق لله تعالى فأشبه إخباره عن السنن والشرائع ، وأما شبه الشهادة فلأنه إلزام لمعين لا يتعداه وهو الأظهر ، وسابعها أطلق الأصحاب القول في المخبر عن نجاسة الماء أنه يكفي فيه الواحد ، وكذلك الخارص وقال مالك يقبل قول القاسم بين اثنين .

وقال ابن القاسم لا يقبل قول القاسم ؛ لأنه شاهد على فعل نفسه ويقلد المؤذن الواحد في الإخبار عن الوقت ، وكذلك الملاح ومن صناعته في الصحراء في الإخبار عن القبلة إذا كان عدلا يغلب في هذه الفروع شبه الرواية [ ص: 11 ] أما المخبر عن النجاسة فلشبهه بالمفتي والمفتي لم أعلم فيه خلافا أنه يكفي فيه الواحد ؛ لأنه ناقل عن الله تعالى لخلقه كالراوي للسنة ، ولأنه وارث للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وقول النبي صلى الله عليه وسلم يكفي وحده وكذلك وارثه فالمخبر عن النجاسة أو الصلاة كذلك مبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أن هاهنا فرقا وهو أن المفتي لا يخبر عن وقوع السبب الموجب للحكم بل عن الحكم من حيث هو حكم الذي يعم الخلائق إلى يوم القيامة ، والمخبر عن النجاسة أو الصلاة مخبر عن وقوع سبب جزئي في شخص جزئي .

وهذا شبه شديد بالشهادة أمكن ملاحظته ، وكذلك الخارص إن جعل حاكما يتجه لا راويا ، والحاكم يكفي فيه الواحد وهو ظاهر كلام الأصحاب فيه وفي الساعي أن تصرفهما تصرف الحاكم ، والقاسم أيضا كذلك إن استنابه الحاكم فشائبة الحاكم ظاهرة وإن انتدبه الشريكان أمكن أن يقال إنه من باب التحكيم والمؤذن مخبر عن وقوع السبب ، وهو أوقات الصلوات فإنها أسبابها فأشبه المخبر عن وقوع سبب الملك من البيع والهبة وغيرهما فمن هذا الوجه فارق المفتي .

وكان ينبغي أن لا يقبل إلا اثنان ، ويغلب شائبة الشهادة ؛ لأنها إخبار عن سبب جزئي في وقت جزئي غير أني لم أره مشترطا [ ص: 12 ] وهو حجة حسنة للشافعية في الاكتفاء في هلال رمضان بالواحد فإنها إخبار عن سبب جزئي في وقت جزئي يعمان أهل البلد ، والأذان لا يعم أهل الأقطار بل لكل قوم زوالهم وفجرهم وغروبهم وهو أولى باعتبار شائبة الشهادة بخلاف هلال رمضان عممه المالكية والحنفية في جميع أهل الأرض ولم يجعلوا لكل قوم رؤيتهم كما قاله الشافعية فالمخبر عن رؤية الهلال على قاعدة المالكية أشبه بالرواية من المؤذن فينبغي أن يقبل الواحد قياسا على المؤذن بطريق الأولى لتوفر العموم في الهلال ، وهنا سؤالان مشكلان على المالكية أحدهما التفرقة بين المؤذن يقبل فيه الواحد وبين المخبر عن هلال رمضان لا يقبل فيه الواحد .

وقد تقدم تقريره وثانيهما حصول الإجماع في أوقات الصلوات على أنها مختصة بأقطارها بخلاف الأهلة مع أن الجميع يختلف باختلاف الأقطار عند العلماء بهذا الشأن فقد يطلع الهلال في بلد دون غيره بسبب البعد عن المشرق والقرب منه فإن البلد الأقرب إلى المشرق هو بصدد أن لا يرى فيه الهلال ويرى في البلد الغربي بسبب مزيد السير الموجب لتخلص الهلال من شعاع الشمس فقد لا يتخلص في البلد الشرقي فإذا كثر سيره ، ووصل إلى الآفاق الغربية تخلص فيه فيرى الهلال في المغرب دون المشرق وهذا مبسوط في كتب هذا العلم ولهذا ما من زوال لقوم إلا وهو غروب لقوم وطلوع الشمس عند قوم ونصف الليل عند قوم ، وكل درجة تكون الشمس فيها فهي متضمنة لجميع أوقات الليل والنهار لأقطار مختلفة فإذا قاست الشافعية الهلال على أوقات الصلوات اتجه القياس وعسر الفرق وهو مشكل ، والحق أنه يعتبر لكل قوم رؤيتهم وهلالهم كما يعتبر لكل قوم فجرهم وزوالهم فإن قلت الجواب عن الأول أن المعاني الكلية قد يستثنى منها بعض أفرادها بالسمع ، وقد ورد الحديث الصحيح بقوله عليه السلام { إذا شهد عدلان فصوموا وأفطروا وانسكوا } فاشترط عدلين في وجوب الصوم ومع تصريح صاحب الشرع باشتراط عدلين لا يلزمنا بالعدل الواحد شيء ولا يسمع الاستدلال بالمناسبات في إبطال النصوص الصريحة وعن الثاني أن الأذان عدل به عن صيغة الخبر إلى صفة العلامة على الوقت .

ولذلك كان المؤذن لا يقول دخل وقت الصلاة بل يقول كلمات أخر جعلها صاحب الشرع علامة ودليلا على دخول الوقت ، فأشبهت ميل الظل وزيادته من دلالتهما على دخول الوقت فكما لا يشترط ميلان في الظل ولا زيادتان لا يشترط عدلان ولا مؤذنان وكذلك آلة واحدة من آلات الأوقات تكفي ، ولا يقول أحد إنه يشترط أسطرلابان ولا ميزانان للشمس ؛ لأن ذلك علامة مفيدة ، وكذلك الأذان يكفي فيه الواحد لأنه علامة [ ص: 13 ] قلت هذا بحث حسن غير أن الجواب عن الأول أنه يدل بمفهومه لا بمنطوقه فإن منطوقه أن الشاهدين يجب عندهما ، ومفهومه أن أحدهما لا يكفي من جهة مفهوم الشرط وإذا كان الاستدلال به إنما هو من جهة المفهوم فنقول القياس الجلي مقدم على منطوق اللفظ على أحد القولين لمالك وغيره من العلماء فينبغي أن يقدم على المفهوم قولا واحدا ؛ لأن القاضي أبا بكر وغيره يقول المفهوم ليس بحجة مطلقا .

وهو ضعيف جدا فلا يندفع به القياس الجلي وعن الثاني بأنه يشكل بما إذا قال لنا المؤذن من غير أذان طلع الفجر فإنا نقلده وهو خبر صرف مع أن قوله في الأذان : حي على الصلاة معناه أقبلوا إليها فهو يدل بالالتزام على دخول وقتها ، وكذلك حي على الفلاح .

وأما المخبر بالقبلة فليس مخبرا عن وقوع سبب بل عن حكم متأبد فإن نصب جهة الكعبة المعظمة قياما للناس أمر عام في جميع الأعصار والأمصار لا يختلف بخلاف المؤذن لا يتعدى حكمه وإخباره ذلك الوقت فالمخبر عن القبلة أشبه بالرواية من المؤذن فتأمل هذه الفروق وهذه الترجيحات فهي حسنة ، وكلها إنما ظهرت بعد معرفة حقيقة الشهادة والرواية فلو خفيتا ذهبت هذه المباحث جملتها ولم يظهر التفاوت بين القريب منها للقواعد والبعيد [ ص: 14 ] وثامنها المخبر عن قدم العيب أو حدوثه في السلع عند التحاكم في الرد بالعيب أطلق الأصحاب القول فيه أنه شهادة ، وأنه يشترط فيه العدد ؛ لأنه حكم جزئي على شخص معين لشخص معين ، وأنه متجه غير أن ذلك يعكر على قولهم أنه إذا لم يوجد المسلمون قبل فيه أهل الذمة من الأطباء ونحوهم ، قاله القاضي أبو الوليد وغيره قالوا لأن هذا طريقه الخبر فيما ينفردون بعلمه .

وهذا مشكل من وجهين أحدهما أن الكفار لا مدخل لهم في الشهادة على أصولنا خلافا لأبي حنيفة في الوصية في السفر وشهادة بعضهم على بعض ، وكذلك لا مدخل لهم في الرواية فكيف يصرحون بالشهادة مع قبول الكفرة فيها ، وثانيهما أن قولهم إن هذا أمر ينفردون بعلمه لا عذر فيه حاصل فإن كل شاهد إنما يخبر عما علمه مع إمكان مشاركة غيره له فيه وهؤلاء الكفار يعلمون هذه الأمراض مع إمكان مشاركة غيرهم معهم في العلم بذلك فما أدري وجه المناسبة بين قبول قولهم وبين هذا المعنى مع أن كل شاهد كذلك فتأمل ذلك ، وتاسعها قال ابن القصار قال مالك يجوز تقليد الصبي والأنثى والكافر الواحد في الهدية والاستئذان مع أنه إخبار يتعلق بجزئي في الهدية والمهدي والمهدى إليه فهو على خلاف القواعد ، ووقع هذا الفرع عند الشافعية وخرجوه بأن المعتمد في هذه الصور ليس هذه الإخبارات بمجردها بل هي مع ما يحتف بها من القرائن ، ولربما وصلت إلى حد القطع وهذه إشارة منهم إلى أنه من باب الشهادة غير أنه استثني منها لوجود القرائن التي تنوب مناب العدول مع عموم البلوى في ذلك ، ودعوى الضرورة إليه فلو كان أحدنا لا يدخل بيت صديقه حتى يأتي بعدلين يشهدان له بإذنه له في ذلك أو لا يبعث بهديته إلا مع عدلين لشق ذلك على الناس ولا غرو في الاستثناء من القواعد لأجل الضرورات ، وعاشرها نقل ابن حزم في مراتب الإجماع له إجماع الأمة على قبول قول المرأة الواحدة في إهداء الزوجة لزوجها ليلة العرس مع أنه إخبار عن تعيين مباح جزئي لجزئي .

ومقتضاه أن لا يقبل فيه إلا رجلان ؛ لأنها شهادة تتعلق بالنكاح الذي هو من أحكام الأبدان التي لا يقبل فيها النساء إلا لضرورة غير أن هذه الصورة اجتمع فيها قرائن الأحوال من اجتماع الأهل والأقارب وندرة التدليس والغلط في مثل هذا مع شهرته وعدم المسامحة فيه ودعوى ضرورات الناس [ ص: 15 ] إلى ذلك كما تقدم في الاستئذان والهدية ، فهذه عشر مسائل تحرر قاعدتي الشهادة والرواية بوجود أشباههما فيها ، وتؤكد ذلك تأكدا واضحا في نفس الفقيه بحيث يسهل عليه بعد ذلك تخريج جميع فروع القاعدتين عليهما ، ومعرفة الفرع القريب من القاعدة من البعيد عنها ولنقتصر على هذه العشر خشية الإطالة .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

. قال شهاب الدين

( الفرق الأول بين الشهادة والرواية ) [ ص: 5 ] قال حاكيا عن الإمام أبي عبد الله المازري الشهادة والرواية خبران غير أن المخبر عنه إن كان أمرا عاما لا يختص بمعين فهو الرواية كقوله عليه السلام { إنما الأعمال بالنيات } ، والشفعة فيما لا يقسم لا يختص بشخص معين بل ذلك على جميع الخلق في جميع الأعصار والأمصار بخلاف قول العدل عند الحاكم : لهذا عند هذا دينار إلزام لمعين لا يتعداه إلى غيره ، فهذا هو الشهادة المحضة ، والأول هو الرواية المحضة ثم تجتمع الشوائب بعد ذلك قلت لم يقتصر الإمام في مفتتح كلامه الذي نقل منه الشهاب ما نقل على الفرق بالعموم والخصوص ، ولكنه ذكر مع الخصوص قيدا آخر ، وهو إمكان الترافع إلى الحكام والتخاصم وطلب فصل القضاء ثم اقتصر في مختتم كلامه على الخصوص [ ص: 6 ] والعموم والأصح اعتبار القيد المذكور ، ويتضح ذلك بتقسيم حاصر ، وهو أن الخبر إما أن يقصد به أن يترتب عليه فصل قضاء وإبرام حكم وإمضاء أو لا فإن قصد به ذلك فهو الشهادة .

وإن لم يقصد به ذلك فإما أن يقصد به ترتب دليل حكم شرعي أو لا فإن قصد به ذلك فهو الرواية وإلا فهو سائر أنواع الخبر ، ولا حاجة بنا إلى بيان تفاصيلها ؛ لأن المقصود إنما هو بيان ما يجوز في اصطلاح الفقهاء والأصوليين واعتباراتهم ، ودليل صحة اعتبار القيد المذكور أن المخبر بأن لزيد قبل عمرو دينارا غير قاصد بذلك الخبر أن يترتب عليه فصل قضاء لا يسمى في عرف الفقهاء والأصوليين شاهدا على جهة الحقيقة بل يسمى مخبرا ، وكذلك المخبر عن الأمور الواقعة التي لا يستفاد منها تعريف دليل حكم شرعي لا يسمى عندهم على جهة الحقيقة راويا ، وإن سمي كما في الأقاصيص ونحوها فهو مجاز من جهة أنهم لا يشترطون فيه من صفات الرواة ما يشترطون في رواة تعريف أدلة الأحكام .

قال شهاب الدين ما معناه ( إن المناسبة بين اشتراط العدد في الشهادة وعدم اشتراطه في الرواية أن الشهادة لما كان مقتضاها إلزاما لمعين ، وهو ربما كانت بينه وبين الشاهد عداوة باطنية لا يطلع الحاكم عليها ، والعداوة ربما بعثت على إلزام العدو وعدوه ما لا يلزمه ، احتاط الشارع باشتراط العدد إبعادا لهذا الاحتمال ) قلت هذا الذي ذكره مما يؤكده ما قلته من لزوم اعتبار القيد المذكور من جهة أنه إذا لم يكن القصد بالإخبار أن يترتب عليه حكم ولا فصل قضاء لا يحصل مقصود العدو في عدوه من إلزامه ما لا يلزمه .

قال شهاب الدين ( ويناسب أيضا اشتراط الذكورية من وجهين أحدهما أن إلزام المعين سلطان قهر تأباه النفوس الأبية ، وهو من النساء أشد نكاية فخفف ذلك على النفوس بدفع الأنوثة ) قلت هذا مناسب كما قال غير أنه يرد عليه النقض بشهادة الأنثى في الأموال وفي المواطن التي يتعذر فيها اطلاع الرجال ، لكنه يجاب عنه بإلجاء الضرورة إلى ذلك ، والقواعد يستثنى منها محال الضرورات ، ثم إن الشرع جعل المرأة كالرجل في محل تعذر اطلاعه الإطلاقي ، وجعلها مثله بشرط الاستظهار بأخرى في محل تعذر اطلاعه الاتفاقي ؛ لأن إذعان النفوس لمقتضى الضرورات الإطلاقية أشد من إذعانها لمقتضى الضرورات الاتفاقية . والله أعلم .

قال شهاب الدين ( الثاني أن النساء ناقصات عقل ودين فناسب أن لا ينصبن نصبا عاما في موارد الشهادات [ ص: 7 ] لئلا يعم ضررهن بالنسيان والغلط بخلاف الرواية ؛ لأن الأمور العامة تتأسى فيها النفوس ويتسلى بعضها ببعض فيخف الألم ، وتقع المشاركة غالبا في الرواية لعموم التكليف والحاجة فيروي مع المرأة غيرها فيبعد احتمال الغلط ويطول الزمان في الكشف عن ذلك إلى يوم القيامة ، فيظهر مع طول السبر خلل إن كان بخلاف الشهادة تنقضي بانقضاء زمانها ، وتنسى بذهاب أوانها فلا يطلع على غلطها ونسيانها ) قلت كلامه في هذا الفصل ضعيف ، أما قوله فناسب أن لا ينصبن نصبا عاما لئلا يعم ضررهن بالنسيان والغلط بخلاف الرواية فلا فرق بين الشهادة والرواية في ذلك من جهة أن نقصان عقلهن ودينهن ثابت لهن في حال الرواية ، كما أنه ثابت في حال الشهادة ، ولا يفيد قوله لعموم التكليف فإن عموم التكليف شامل ولازم في تحمل الشهادة وأدائها ، كما أنه شامل ولازم في تحمل الرواية وأدائها هذا إن أراد عموم التكليف بالرواية نفسها ، وإن أراد عموم مقتضاها دون مقتضى الشهادة فذلك متجه والله أعلم ، ولا يفيده .

قوله أيضا : فيروي مع المرأة غيرها ، فإنه كما يروي معها غيرها كذلك يشهد معها غيرها ، بل ليس بلازم في الرواية أن يروي معها غيرها ، ولازم في الشهادة أن يشهد معها غيرها ، ولا يفيده أيضا قوله لطول الزمان ، فإن اشتراط طول الزمان في العمل بالرواية ليس بصحيح ، ولا أعلمه قولا لأحد ، بل الرواية كالشهادة في العمل بموجبها عند توفر الشروط ، هذا إن أراد اشتراط طول الزمان ، وإن لم يرده فلا فائدة في وقوع ذلك بعد العمل بمقتضى الرواية في حق من لم يطلع على ذلك ، وإن كانت له فائدة فيما بعد في حق المطلع .

قال شهاب الدين ( ولا يتهم أحد في عداوة جميع الخلق إلى يوم القيامة فلا يحتاج إلى الاستظهار بالغير فيكفي الواحد ) قلت : هذا صحيح وهو الفرق بين الشهادة والرواية ، قال شهاب الدين وأما الحرية فلأن النفوس الأبية تأبى قهرها بالعبيد الأدنى ، ويخفف ذلك عليها بالأحرار وسراة الناس ، ولأن الرق يوجب الضغائن والأحقاد بسبب ما فات من الحرية والاستقلال بالكسب والمنافع فربما بعثه ذلك على الكذب على المعين وإذايته ، وذلك للخلائق يبعد القصد إليه في مجاري العادات قلت [ ص: 8 ] كلامه الأول صحيح مستقل بالتعليل كما في المرأة بل أولى ، والثاني يحتمل أن يكون تعليلا مستقلا أيضا لعدم قبول شهادة العبد ، ويحتمل أن يكون غير مستقل من جهة أن احتمال العداوة لم يثبت علة في عدم قبول الشهادة في الحر ولقائل أن يقول إن بين الحر والعبد فرقا من جهة أن في الحر مجرد احتمال العداوة وفي العبد تحقق سبب العداوة والله أعلم .

قال شهاب الدين ( الخبر ثلاثة أقسام إلى قوله وله صور أحدها : الإخبار عن رؤية هلال رمضان ، ثم قال ما معناه إنه رواية من جهة أنه لا يختص بمعين ، وشهادة من جهة أنه خاص بهذا العام وبهذا القرن ) قلت أما قوله إنه رواية فإن أراد أن حكمه حكم الرواية في الاكتفاء فيه بالواحد عند من قال بذلك فصحيح ، وإن أراد أنه رواية حقيقة فذلك غير صحيح ؛ لأنه لم يتقرر ذلك في إطلاق أحد فيما علمت .

وأما قوله إنه شهادة فإن أراد أيضا أن حكمه حكم الشهادة عند بعض العلماء في اشتراط العدد فذلك صحيح ، وإن أراد أنه شهادة حقيقة فليس كذلك ؛ لأنه قد تقرر أن لفظ الشهادة إنما يطلق حقيقة في عرف الفقهاء والأصوليين على الخبر الذي يقصد به أن يترتب عليه حكم وفصل قضاء قلت والذي يقوى في النظر أن مسألة الهلال حكمها حكم الرواية في الاكتفاء بالواحد ، وليست رواية حقيقة ولا شهادة أيضا ، وإنما هي من نوع آخر من أنواع الخبر ، وهو الخبر عن وجود سبب من أسباب الأحكام الشرعية ولا خفاء في أنه لا يتطرق إليه من الاحتمال الموجب للعداوة ما يتطرق في فصل القضاء الدنيوي .

قال شهاب الدين ( وثانيها القائف فيه قولان ) قلت ذكر فيه شبه الشهادة ولا خفاء على ما تقرر قبل في أنه من نوع الشهادة ، وذكر شبه الرواية ، وهو ضعيف لا خفاء به ، وذكر السؤال الذي أورده وهو ضعيف أيضا ، وذكر الجواب عنه وهو صحيح لا ريب فيه [ ص: 9 ]

قال شهاب الدين ( وثالثها المترجم ) قلت لم يحرر الكلام في هذا الضرب فإنه أطلق القول فيه ، والصحيح التفصيل ، وهو أن الترجمة تابعة لما هي ترجمة عنه فإن كان من نوع الرواية فحكمه حكمها وإن كان من نوع الشهادة ، فكذلك وهذا واضح بناء على ما تقرر قبل ، وما ذكر فيه من شبه الرواية لنصبه نصبا عاما فضعيف ، وكذلك ما ذكره من شبه الشهادة بكونه يخبر عن معين من الفتاوى والخطوط ، وما ذكره من ورود السؤال والبحث فيه كما في القائف صحيح .

قال شهاب الدين ( ورابعها المقوم ) ذكر فيه شبه الرواية وهو ضعيف كما قال وشبه الحكم وهو ضعيف أيضا ، والصحيح أنه من نوع الشهادة لترتب فصل القضاء بإلزام ذلك القدر المعين من العوض عليه ، وما ذكره من كون الخلاف في كونه رواية أو شهادة فشبهة يدرأ بها الحد ضعيف من جهة أنه لو فرض أن سارقا ثبتت سرقته لما قومه عدلان عارفان بربع دينار ، فلا شك أن الخلاف في مثل هذا الفرض مرتفع ، والحد لازم مع أن احتمال كون المقوم كالراوي [ ص: 10 ] أو كالشاهد في هذا الفرض قائم .

قال شهاب الدين ( وخامسها القاسم ) وذكر فيه أن منشأ الخلاف شبه الحكم أو الرواية قلت : ليس ذلك عندي بصحيح بل منشأ الخلاف شبه الحكم أو التقويم وقد تقدم أن الصحيح أنه من نوع الشهادة فمن نظر إلى أن القسم من نوع الحكم اكتفى بالواحد ، ومن نظر إلى أنه من نوع التقويم وبنى على الأصح اشترط العدد والله أعلم .

قال شهاب الدين ( وسادسها مخبر المصلي بعدد ما صلى ) قلت ذكر أن شبه الحكم فيه منتف ، وذلك صحيح ، وذكر شبه الرواية وهو محتمل ، وذكر شبه الشهادة وقال إنه الأظهر ، وليس ما قاله بصحيح بل الأظهر أنه ليس من نوع الرواية ولا من نوع الشهادة ، ولكنه من سائر أنواع الخبر وشبهه بالرواية ظاهر غير أنه لقائل أن يقول ليس للمكلف أن يخرج عن عهدة ما كلف به إلا بيقين فلا يكفي الواحد إلا مع قرائن توجب القطع ، وكذلك في الاثنين وما فوقهما ، ونقول طلب اليقين في كل موطن مما يشق ويحرج ، والحرج مرفوع شرعا وفي ذلك نظر .

قال شهاب الدين ( وسابعها المخبر عن نجاسة الماء ، والخارص وذكر إطلاق الأصحاب أنه يكفي فيهما الواحد ، قال وقال مالك يقبل قول القاسم بين اثنين ، وقال ابن القاسم لا يقبل ) قلت قد تقدم القول في القاسم ، وأما المخبر عن نجاسة الماء والخارص فالأولى الفرق بينهما من جهة أن الخارص في معنى القاسم ، والمخبر عن نجاسة الماء في معنى مخبر المصلي .

قال شهاب الدين : ( أو يقلد المؤذن الواحد والملاح ومن صناعته في الصحراء في الإخبار عن القبلة يغلب في هذه الفروع شبه الرواية ) قلت : ما ذكره من أنه يغلب في هذه الفروع شبه الرواية كان الأولى أن يفرق بين المخبر عن نجاسة الماء والخارص وبين المؤذن والمخبر عن القبلة ، وقد تقدم القول في الأولين وأما الأخيران فشبه الرواية فيهما ظاهر كما قال شهاب الدين [ ص: 11 ]

( أما المخبر عن النجاسة فلشبهه بالمفتي إلى قوله : وكذلك وارثه ) قلت ما ذكره في هذا الفصل ظاهر صحيح غير ما ذكره من شبه المخبر عن النجاسة بالمفتي ، وقد عطف بعد ذلك على ذكر الفرق فقال غير أن هاهنا فرقا ، وهو أن المفتي لا يخبر عن وقوع السبب الموجب للحكم بل عن الحكم ، والمخبر عن النجاسة أو الصلاة مخبر عن وقوع سبب جزئي في شخص جزئي ، وهذا شبه شديد بالشهادة أمكن ملاحظته قلت إضرابه عن مراعاة قيد فصل القضاء في الشهادة أوقعه في اعتقاد قوة الشبه هنا بالشهادة ، وقد تقدم في مخبر المصلي أن الأظهر شبه الرواية بخلاف ما اختاره .

قال شهاب الدين : ( وكذلك الخارص إن جعل حاكما يتجه لا راويا ، والحاكم يكفي فيه الواحد ، وهو ظاهر كلام الأصحاب فيه وفي الساعي أن تصرفهما تصرف الحاكم والقاسم أيضا كذلك إن استنابه الحاكم فشائبة الحاكم ظاهرة وإن انتدبه الشريكان أمكن أن يقال إنه من باب التحكيم ) قلت : قد تقدم أن الأظهر أن القسم متردد بين أن يكون من نوع الحكم ومن نوع التقويم ، والخرص في معناه وأما الساعي فهو في معنى الحاكم .

قال شهاب الدين ( والمؤذن مخبر عن وقوع السبب وهو أوقات الصلوات فإنها أسبابها فأشبه المخبر عن وقوع سبب الملك من البيع والهبة وغيرهما ، فمن هذا الوجه فارق المفتي ، وكان ينبغي أن لا يقبل إلا اثنان ، ويغلب شائبة الشهادة لأنها إخبار عن سبب جزئي في وقت جزئي غير أني لم أره مشترطا ) قلت إضرابه عن مراعاة قيد فصل القضاء حمله على تسويته بين الخبر عن وقوع سبب الصلاة ، وما في معناها وبين الخبر عن وقوع سبب البيع ، وما في معناه ولا خفاء بالفرق فإن الأول لا يتطرق إليه من احتمال قصد العدو إلزام عدوه ما لا يلزمه والتشفي منه بذلك ما يتطرق إلى الثاني ، فالصحيح أن الأول في معنى الرواية ، والثاني من نوع الشهادة .

قال [ ص: 12 ] شهاب الدين : ( وهو حجة حسنة للشافعية إلى قوله والحق أنه يعتبر لكل قوم رؤيتهم وهلالهم كما يعتبر لكل قوم فجرهم وزوالهم ) قلت : جميع ما ذكره في هذا الفصل مبني على مقتضى علم آخر فإن صح في ذلك العلم ما ذكره من استواء الأمر في الأهلة والأوقات فما بني عليه من استواء الحكم صحيح ، وإلا فلا .

قال شهاب الدين : ( فإن قلت الجواب عن الأول إلى قوله [ ص: 13 ] ولم يظهر التفاوت فيها بين القريب والبعيد ) قلت من مضمن هذا الفصل موافقته لمورد السؤال على استواء الأذان وميل الظل وزيادته في الدلالة على دخول الوقت ، والفرق بينهما ظاهر ؛ لأن ميل الظل دلالته قطعية والأذان دلالته غير قطعية ولا خفاء بأن ما دلالته قطعية لا حاجة فيه إلى الاستظهار بخلاف ما دلالته غير قطعية ، ومن مضمنه جوابه عن الجواب الأول بأنه يدل بمفهومه لا بمنطوقه .

وما قاله في هذا الجواب صحيح ومن مضمنه جوابه عن الجواب الثاني بأنه يشكل بما إذا قال لنا المؤذن من غير أذان طلع الفجر فإنا نقلده وهو خبر صرف قلت قوله : فإنا نقلده إن أراد إنا نقلده باتفاق فذلك ليس بصحيح ، فإن الخلاف في التقليد في الأوقات معروف ، وإن أراد فإنا نقلده على ظاهر المذهب وهو الأصح فذلك صحيح ولقائل أن يقول إنما ثبت في ظاهر المذهب وصحيح النظر تقليد المؤذن في دخول الوقت إذا أذن لا إذا أخبر بدخوله من غير أذان ، والأصح عندي هاهنا أن لا تقليد ؛ لأن الشرع نصب دليلا معينا فلا يتعدى ما نصب والله أعلم . ومن مضمنه قوله أن قول المؤذن حي على الصلاة يدل بالالتزام على دخول الوقت قلت : ذلك صحيح لكنه أغفل دلالة الأذان بجملته على دخول الوقت ، وهي دلالة عرفية للشرع بالمطابقة ؛ لأنه لذلك وضعه الشارع مع أن كل جزء من أجزائه دال على مقتضاه دلالة لغوية بالمطابقة أيضا ، ومن مضمنه قوله إن المخبر عن القبلة مخبر عن حكم متأبد ، وأنه أشبه بالرواية من المؤذن قلت لقائل أن يقول : الفرق بينهما أن كل واحد منهما لا يخلو إما أن يخبر عن مشاهدة أو اجتهاد فإن أخبر عن مشاهدة فلا فرق ، .

وما ذكر من الفرق بأن المخبر عن القبلة مخبر بحكم متأبد بخلاف المؤذن فإنه مخبر بحكم غير متأبد لا يصلح فارقا ، وإن أخبر عن اجتهاد فالفرق في ذلك مبني على جواز تقليد المجتهد في القبلة وفي الوقت أو عدم جوازه أو جوازه [ ص: 14 ] في أحدهما دون الآخر ، والأصح نقلا ونظرا جوازه فيهما والله أعلم .

قال شهاب الدين ( وثامنها المخبر عن قدم العيب أو حدوثه إلى قوله فتأمل ذلك ) . قلت : ما حكاه عن الأصحاب من أنه شهادة صحيح وما استشكل من قبول بعضهم أهل الذمة مشكل كما .

قال شهاب الدين ( وتاسعها قال ابن القصار قال مالك يجوز تقليد الصبي والأنثى والكافر في الهدية والاستئذان مع أنه إخبار يتعلق بجزئي إلى قوله لأجل الضرورات ) قلت ليس هذا من نوع الشهادة ؛ لأنه لا يقصد به فصل قضاء فهو في حكم الرواية وجوز فيه ما لا يجوز في الرواية من قبول خبر الصبي والكافر لإلجاء الضرورة إلى ذلك من جهة لزوم المشقة على تقدير عدم التجويز مع ندور الخلو عن قرائن تحصل الظن .

قال شهاب الدين ( وعاشرها نقل ابن حزم في مراتب الإجماع له إجماع الأمة على قبول قول المرأة في إهداء الزوجة لزوجها ليلة العرس إلى آخر الفصل ) [ ص: 15 ] قلت هذه المسألة في معنى التي قبلها كما ذكر .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الأول بين الشهادة والرواية ) ببيان معناهما أما لغة فالشهادة مصدر شهد ولشهد في لسان العرب ثلاثة معان : أحدها حضر يقال شهد بدرا وشهدنا صلاة العيد ، قال أبو علي معنى قوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } من حضر منكم المصر في الشهر فليصمه أو من حضر منكم الشهر في المصر فليصمه فإن الصوم لا يلزم المسافر ، فالمقصود إنما هو المقيم الحاضر وثانيها أخبر ، يقال شهد عند الحاكم أي أخبر فيما يعتقده في حق المشهود له وعليه ، وثالثها علم ، قال الله تعالى { والله على كل شيء شهيد } أي عليم ووقع التردد لبعض العلماء في كون شهد في قوله تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } بمعنى علم لأن الله يعلم ذلك أو بمعنى أخبر ؛ لأن الله تعالى أخبر عباده عن ذلك فهو محتمل للأمرين ، والرواية مصدر روى [ ص: 11 ] بمعنى حمل وتحمل فراوي الحديث حمله وتحمله عن شيخه ، فلذا قال بعض أهل اللغة إن إطلاق الراوية على المزادة التي يحمل فيها الماء على الجمل مجاز مرسل لعلاقة المجاورة ؛ لأن الراوية بهاء المبالغة اسم في أصل اللغة للبعير الذي كثر حمل الماء عليه ففي المصباح روى البعير الماء يرويه من باب رمى حمله فهو راوية الهاء فيه للمبالغة ، ثم أطلقت الراوية على كل دابة يستقى الماء عليها ا هـ .

وهذا هو الموافق لكون راوية إنما يأتي من الثلاثي قلت : وفي حاشية الأنبابي على بيانية الصبان ، ومفاد قول ابن سيده الراوية المزاد فيها الماء ، ويسمى البعير راوية على تسمية الشيء باسم الشيء لقربه منه ا هـ .

إن الراوية حقيقة في المزادة مجاز في البعير لعلاقة المجاورة فهو من باب أروى الرباعي شذوذا إذ قياس اسم الفاعل من أروى مرو لا راوية ، وظاهر صنيع صاحب القاموس أنها حقيقة فيهما حيث قال الراوية المزادة فيها الماء والبعير والبغل والحمار يستسقى عليه الماء ا هـ .

نعم من اصطلاحاته أنه لا يفرق بين الحقيقة والمجاز فلعل أقوال أهل اللغة فيها ثلاثة كما يشعر به كلام ابن الطيب في حواشي القاموس .

وأما اصطلاحا ففي شرح البرهان للمازري ما يفيد أن الشهادة خبر خاص قصد به ترتيب فصل القضاء عليه كقول العدل عند الحاكم لهذا عند هذا دينار والرواية خبر عام قصد به تعريف دليل حكم شرعي كقوله عليه الصلاة والسلام { إنما الأعمال بالنيات } والشفعة فيما لا يقسم فلا يسمى في عرف الفقهاء والأصوليين قول المخبر لزيد قبل عمرو دينار غير قاصد به أن يترتب فصل قضاء عليه شهادة ، ولا هو شاهد على جهة الحقيقة بل يسمى خبرا وقائله مخبرا .

وكذلك المخبر عن الأمور الواقعة لا يسمى شاهدا كما لا يسمى في عرفهم راويا على جهة الحقيقة وإن سمي كما في الأقاصيص ونحوها فهو مجاز من جهة أنه لا يشترطون فيه من صفات الرواية ما يشترطون في رواة تعريف أدلة الأحكام والشهادة بالوقف على الفقراء والمساكين إلى يوم القيامة والنسب المتفرع بين الأنساب إلى يوم القيامة ونحوهما من النظائر إنما جاء العموم فيها بطريق العرض .

والتبع المقصود بالذات [ ص: 12 ] فيها جزئي هو في الوقف الواقف وإثبات ذلك عليه ، وليس من لوازم الوقف أن يكون في الموقوف عليه عموما إذ قد يكون الوقف على معين كعلى ولده أو على زيد ثم من بعده لغيره فالعموم أمر عارضي ليس متقررا شرعا في أصل هذا ، وهو في النسب الإلحاق بالشخص المعين أو استحقاق الميراث للشخص المعين ، ثم تفرعه بعد ذلك إنما هو من الأحكام الشرعية التابعة للمقصود بالشهادة كما أن الشهادة إذا وقعت بأن هذا رقيق لزيد قبل فيه الشاهد واليمين ، وإن تبع ذلك لزوم القيمة لمن قتله دون الدية وسقوط العبادات عنه واستحقاق أكسابه للسيد مع أن الشاهد لم يقصد سقوط العبادات عنه ، وليس سقوطها مما تدخل فيه الشهادة فضلا عن الشاهد واليمين ، وكذلك الشهادة بتزويج زيد المرأة المعينة شهادة بحكم جزئي على المرأة لزوجها المشهود له ، وهو جزئي وإن تبع ذلك تحريمها على غيره وإباحة وطئها له مع أن التحريم والإباحة شأنها الرواية دون الشهادة على غير ذلك من النظائر ، وبالجملة فالخبر إما أن يقصد به أن يترتب عليه فصل قضاء وإلزام حكم وإمضاء أو لا فإن قصد به ذلك فهو الشهادة ، وإن لم يقصد به ذلك فإما أن يقصد به تعريف دليل حكم شرعي أو لا فإن قصد به ذلك فهو الرواية ، وإلا فهو سائر أنواع الخبر ولا حاجة بنا إلى بيان تفاصيلها ؛ لأن المقصود إنما هو بيان ما يجوز في اصطلاح الفقهاء والأصوليين واعتباراتهم .

( قلت ) وقد اشترطوا في الشهادة دون الرواية العدد والذكورية والحرية ، وجعلوا العدالة المتضمنة الإسلام والعقل والبلوغ شرطا فيهما .

قال التسولي في شرحه على العاصمية ولا يخفى أن العدالة تتضمن الإسلام والعقل والبلوغ إذ كل عدل مطلقا كان عدل رواية أو شهادة لا بد فيه منها وقت الأداء والإخبار ا هـ .

وقبول شهادة الصبيان وكذا رواية الكافر والصبي كما سيأتي عن ابن القصار عن مالك على خلاف الأصل لإلجاء الضرورة إلى ذلك من جهة لزوم المشقة على تقدير عدم التجويز ، والقواعد يستثنى منها محال الضرورات كما سيأتي على أنه يندر الخلو عن [ ص: 13 ] قرائن تحصل الظن فافهم .

( والمناسبة ) في اشتراط العدد في الشهادة دون الرواية من جهة أن إلزام المعين وهو الغالب في الشهادة تتوقع فيه عداوة باطنية لم يطلع عليها الحاكم ، فينبعث العدو على إلزام عدوه ما لم يكن لازما له فاحتاط الشارع لذلك واشترط معه آخر إبعادا لهذا الاحتمال فإذا اتفقا في المقال قرب الصدق جدا بخلاف الواحد ، والرواية من حيث عموم مقتضاها غالبا يكفي فيها الواحد إذ لا يتهم أحد في عداوة جميع الخلق إلى يوم القيامة فلا يحتاج إلى الاستظهار بالغير فباب الرواية بعيد عن التهم جدا ألا ترى أن العبد العدل إذا روى حديثا يتضمن عتقه أنه تقبل روايته فيه وإن تضمنت نفعه نظرا لكون العموم موجبا لعدم التهمة في الخصوص مع وازع العدالة كما رآه بعض مشايخ القرافي المعتبرين منقولا .

( والمناسبة ) في اشتراط الذكورية في الشهادة دون الرواية من وجهين أحدهما أن إلزام المعين سلطان وغلبة وقهر واستيلاء تأباه النفوس الأبية وتمنعه الحمية ، وهو من النساء أشد نكاية لنقصانهن فإن استيلاء الناقص أشد في ضرر الاستيلاء فخفف ذلك عن النفوس بدفع الأنوثة وقبول شهادة الأنثى في الأموال وفي المواطن التي يتعذر فيها اطلاع الرجال إنما كان لإلجاء الضرورة إلى ذلك ، والقواعد يستثنى منها محال الضرورات ، ثم إن الشرع جعل المرأة كالرجل في محل تعذر اطلاعه الإطلاقي ، وجعلها مثله بشرط الاستظهار بأخرى في محل تعذر اطلاعه الاتفاقي ؛ لأن إذعان النفوس بمقتضى الضرورات الإطلاقية أشد من إذعانها بمقتضى الضرورات الاتفاقية والله أعلم .

( الثاني ) أن الشهادة من حيث خصوص مقتضاها والنساء ناقصات عقل ودين ناسب أن لا ينصبن نصبا عاما في مواردها لئلا يعم ضررهن بالنسيان والغلط بخلاف مقتضى الرواية فإنه عام ، والأمور العامة تتأسى فيها النفوس ويتسلى بعضها ببعض فيخف الألم ، وأيضا قد مر أنه لا يتهم أحد في عداوة جميع الخلق إلى يوم القيامة فافهم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( والمناسبة ) في اشتراط الحرية في الشهادة دون الرواية من وجهين أيضا

( أحدهما ) أن النفوس الأبية تأبى قهرها بالعبيد الأدنى كما تأباه بالنساء [ ص: 14 ] بل أولى ويخف ذلك عليها بالأحرار وسراة الناس .

( الثاني ) أن في العبد تحقق العداوة بسبب ما فاته من الحرية والاستقلال بالكسب والمنافع ، وليس في الحر إلا مجرد احتمال العداوة فربما بعث العبد رقه الموجب للضغائن والأحقاد بسبب ما ذكر على الكذب على المعين وإذايته ، وذلك لعموم الخلائق يبعد القصد إليه في مجاري العادات ( هذا وقد علمت ) مما مر أن الخبر ثلاثة أقسام : ( أحدها ) رواية محضة كالأحاديث النبوية ومنه الخبر المفتي ؛ لأنه ناقل عن الله تعالى لخلقه كالراوي للسنة ولأنه وارث للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك ، وقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يكفي فيه وحده فكذلك وارثه فلذا لم يعلم خلاف في أنه يكفي فيه الواحد ، وظاهر كلام الأصحاب في الساعي أنه يكفي فيه الواحد أيضا لكونه في معنى الحاكم .

( والثاني ) شهادة محضة كإخبار الشهود عن الحقوق على المعينين عند الحاكم ، والثالث سائر أنواع الخبر لكن المقصود من هذا هنا ما اختلف الفقهاء والأصوليون في إعطائه حكم الشهادة من اشتراط العدد أو حكم الرواية من الاكتفاء بالواحد نظرا لما فيه من شبه كل منهما باعتبارين . ( وله صور أحدها ) القائف في إثبات الأنساب بالخلق قيل له حكم الرواية في الاكتفاء بالواحد لما فيه من شبهها من جهة أنه منتصب انتصابا عاما للناس أجمعين ، وأنه يختص بقبيلة معينة وهم بنو مدلج فينصب الحاكم منهم من يراه أهلا لذلك ، ودخول نصب الحاكم لذلك واجتهاده وتوسط نظره يبعد احتمال العداوة ويخفف الضغينة في قلب المحكوم عليه ، ولا يخفى أنه ضعيف لأنه مشترك بينه وبين الشاهد فإنه منتصب لكل من يتعين عليه شهادة يؤديها عند الحاكم ، ولأنه قد يقبل قوله من غير نصب الإمام لذلك الشخص كما قبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قول مجزز المدلجي في نسب أسامة بن زيد ولم ينقل لنا أنه نصبه لذلك ، ولو وجد من الناس أو من القبائل من يودعه الله تعالى تلك الخاصية التي أودعها في بني مدلج لقبل قوله أيضا ، والصحيح بلا خفاء القول بأنه [ ص: 15 ] من نوع الشهادة يشترط فيه العدد لأنه يخبر أن زيدا ابن عمرو وليس ابن خالد وهو حكم جزئي على شخص معين لا يتعداه إلى غيره ، ويتطرق إليه من الاحتمال الموجب للعداوة ما يتطرق في فصل القضاء الدنيوي .

( وثانيها ) المترجم للفتاوى والخطوط قال مالك يكفي الواحد قيل لأن فيه شبه الرواية من جهة أنه نصب نصبا عاما للناس أجمعين لا يختص نصبه بمعين ، وأن ترجمة ما ذكر إنما تكون بنصب الحاكم من يراه أهلا لذلك إلى آخر ما مر في القائف ، وقد علمت ضعفه .

وقال بعض الأصحاب لا بد فيه من اثنين ؛ لأن فيه شبه الشهادة من جهة أنه يخبر عن معين من الفتاوى والخطوط لا يتعدى إخباره ذلك الخط المعين أو الكلام المعين ولا خفاء في ضعف هذا الشبه أيضا ، والصحيح فيه التفصيل وهو أن الترجمة تابعة لما هي ترجمة عنه فإن كان من نوع الرواية فحكمه حكمها وإن كان من نوع الشهادة فكذلك ( وثالثها ) المقوم للسلع وأروش الجنايات والسرقات والغصوب وغيرها .

قال مالك يكفي الواحد في التقويم إلا أن يتعلق بالقيم حد كالسرقة فلا بد من اثنين قيل لما فيه من شبه الرواية ؛ لأنه متصد لما لا يتناهى كما تقدم في المترجم والقائف ، وقد قدمنا تضعيفه ومن شبه الحكم ؛ لأن حكمه ينفذ في القيمة والحاكم ينفذه وهو وإن كان أظهر من شبه الرواية إلا أنه ضعيف أيضا ، ولما فيه من شبه الشهادة لأنه إلزام لمعين وهو ظاهر فيراعى فيه شبها الرواية والحكم ما لا يتعلق بإخباره حد فيتعين مراعاة الشهادة لقوة ما يفضي إليه هذا الإخبار وينبني عليه من إباحة عضو آدمي معصوم ، وروي ولا بد في التقويم من اثنين في كل موضع ، وذلك لأنه من نوع الشهادة على الصحيح لترتب فصل القضاء بإلزام ذلك القدر المعين من العوض عليه والله أعلم .

( ورابعها ) القاسم قال مالك يكفي الواحد والأحسن اثنان ، وقال أبو إسحاق التونسي لا بد من اثنين ومثله قول ابن القاسم لا يقبل قول القاسم ؛ لأنه شاهد وللشافعية في ذلك قولان ، ومنشأ ذلك حصول شبه الحكم ؛ لأن الحاكم استنابه في ذلك فيكفي الواحد وهو المشهور عندنا وعند الشافعية أيضا أو شبه التقويم [ ص: 16 ] قد تقدم أن تقويم المقوم من نوع الشهادة على الصحيح وعليه فيشترط العدد وفي معنى القاسم الخارص ، وإن أطلق الأصحاب القول بأنه يكفي فيه الواحد .

( وخامسها ) مخبر المصلي بعدد ما صلى هل يكتفى فيه بالواحد أم لا بد فيه من اثنين ، والأظهر الأول ؛ لأنه من سائر أنواع الخبر ، وشبهه بالرواية ظاهر نعم يمكن أن يقال ليس للمكلف أن يخرج عن عهدة ما كلف به إلا بتعيين فلا يكفي الواحد إلا مع قرائن توجب القطع ، وكذلك في الاثنين فما فوقهما لكن نقول طلب اليقين في كل موطن مما يشق ويحرج ، والحرج مرفوع شرعا وفي ذلك نظر وفي معنى مخبر المصلي المخبر عن نجاسة الماء ، وإن أطلق الأصحاب أنه يكفي فيه الواحد فافهم .

( وسادسها ) الإخبار عن رؤية هلال رمضان قيل له حكم الشهادة فيشترط فيه اثنان لما فيه من شبهها من جهة أنه حكم يختص بهذا العام دون ما قبله وما بعده وبهذا القرن من الناس دون القرون الماضية والآتية والذي يقوى في النظر أن له حكم الرواية في الاكتفاء بالواحد ؛ لأنه وإن لم يكن رواية حقيقية لعدم تعريف دليل حكم شرعي به ولا شهادة حقيقة لعدم ترتب حكم وفصل قضاء عليه ، وإنما هو نوع آخر من أنواع الخبر ، وهو الخبر عن وجود سبب من أسباب الأحكام الشرعية إلا أنه لا خفاء في أنه لا يتطرق إليه من الاحتمال الموجب للعداوة ما يتطرق في فصل القضاء الدنيوي مع عدم الاختصاص بمعين لعموم الحكم فيه جميع الحضر أو أهل الآفاق على الخلاف في أنه هل يشترط في كل قوم رؤيتهم أو لا .

( وسابعها ) المؤذن يخبر عن الوقت ، والملاح ومن صناعته في الصحراء يخبر كل منهما عن القبلة هل يكفي في ذلك واحد عدل أو لا بد من اثنين .

والأول هو الأصح نقلا ونظرا ؛ لأنه ظاهر المذهب ولأن الخبر عن الوقت وعن القبلة وإن كان خبرا عن وقوع سبب الصلاة إلا أنه لا يتطرق إليه من احتمال قصد العدو إلزام عدوه ما لا يلزمه والتشفي منه بذلك ما يتطرق إلى خبر المخبر عن وقوع سبب الملك من البيع والهبة وغيرهما حتى يكون في معنى الشهادة لا يقبل فيه [ ص: 17 ] إلا اثنان لا يقال قد يفرق بين المؤذن والمخبر عن القبلة بأن الثاني مخبر بحكم متأبد فإن نصب جهة الكعبة المعظمة قياما للناس أمر عام في جميع الأعصار والأمصار لا يختلف بخلاف المؤذن لا يتعدى حكمه وإخباره ذلك الوقت فيكون الأول أشبه بالرواية من الثاني ؛ لأنا نقول لا يصلح ما ذكر فارقا بل الحق أن كل واحد منهما لا يخلو إما أن يخبر عن مشاهدة أو اجتهاد فإن أخبر عن مشاهدة فلا فرق ، وإن أخبر عن اجتهاد فالفرق في ذلك مبني على جواز تقليد المجتهد في الوقت وفي القبلة أو عدم جوازه فيهما أو جوازه في أحدهما دون الآخر والأصح نقلا ونظرا جوازه فيهما ، وهنا إشكالان على المالكية

( أحدهما ) الإجماع على اختصاص أوقات الصلاة بأقطارها ، ولم يجعل المالكية والحنفية والحنابلة لكل قوم رؤيتهم هلال رمضان كما قاله الشافعية بل عمموا رؤيته في قطر جميع أهل الأرض مع أن الجميع يختلف باختلاف الأقطار عند علماء هذا الشأن ، فقد يطلع الهلال في بلد دون غيره بسبب البعد عن المشرق والقرب منه فإن البلد الأقرب إلى المشرق هو بصدد أن لا يرى فيه الهلال ، ويرى في البلد الغربي بسبب مزيد السير الموجب لتخلص الهلال من شعاع الشمس ، وذلك أن البلد المشرقية إذا كان الهلال فيها في الشعاع وبقيت الشمس تتحرك مع القمر إلى الجهة الغربية فما تصل الشمس إلى أفق المغرب إلا وقد خرج الهلال من الشعاع فيراه أهل المغرب ولا يراه أهل المشرق هذا أحد أسباب اختلاف رؤية الهلال وله أسباب أخر مذكورة في علم الهيئة لا يليق ذكرها هنا ، ولهذا ما من زوال لقوم إلا وهو غروب لقوم وطلوع لقوم ونصف الليل لقوم وكل درجة تكون الشمس فيها فهي متضمنة لجميع أوقات الليل والنهار لأقطار مختلفة ، فإذا قاست الشافعية الهلال على أوقات الصلاة اتجه القياس وعسر الفرق على المالكية والحنفية والحنابلة ولا ينفع في دفعه أن الأذان عدل به عن صيغة الخبر إلى صيغة العلامة على الوقت فكما كفى ميل واحد للظل وزيادة واحدة له وآلة واحدة من [ ص: 18 ] آلات الأوقات كالاصطرلاب والميزان ؛ لأن ذلك علامة مفيدة كذلك الأذان يكفي فيه الواحد ؛ لأنه علامة لوجهين أحدهما أن دلالة ميل الظل وزيادته على دخول الوقت قطعية ، ودلالة الأذان غير قطعية ولا خفاء في أن ما دلالته قطعية لا حاجة فيه إلى الاستظهار بخلاف ما دلالته غير قطعية .

وثانيهما أن دلالة الأذان بجملته دلالة عرفية شرعية بالمطابقة ؛ لأنه لذلك وضعه الشارع مع أن كل جزء من أجزائه دال على مقتضاه دلالة لغوية بالمطابقة أيضا ومعنى حي على الصلاة وكذا حي على الفلاح في اللغة بالمطابقة أقبلوا إليها ، وهو يدل التزاما على دخول وقتها فيكون تقليد المؤذن في دخول الوقت إذا أذن كتقليده على ظاهر المذهب وصحيح النظر إذا قال لنا من غير أذان طلع الفجر ، وهو خبر صرف فافهم نعم قال ابن الشاط لقائل أن يقول إنما ثبت في ظاهر المذهب وصحيح النظر تقليد المؤذن في دخول الوقت إذا أذن أما إذا أخبر بدخوله من غير أذان فالصحيح عندي ههنا أن لا تقليد ؛ لأن الشرع نصب دليلا معينا فلا يتعدى ما نصب ا هـ .

فتأمل قلت لكن يؤخذ دفع هذا الإشكال من قول العلامة ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد وإذا قلنا إن الرؤية تثبت بالخبر في حق من لم يره فهل يتعدى ذلك من بلد إلى بلد بأن يجب على أهل بلد لم يروه أن يأخذوا في ذلك برؤية بلد آخر وهو ما رواه ابن القاسم والمصريون عن مالك أم لكل بلد رؤية إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك ، وهو ما رواه المدنيون عنه وبه قال ابن الماجشون والمغيرة من أصحاب مالك وأجمعوا على أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية كالأندلس والحجاز وسبب هذا الخلاف تعارض الأثر والنظر فروى مسلم { عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام فقال قدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال فقلت رأيته ليلة الجمعة فقال أنت رأيته فقلت [ ص: 19 ] نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية قال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يوما أو نراه فقلت ألا تكتفي برؤية معاوية فقال لا هكذا أمرنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم } فظاهر هذا الأثر يقتضي أن لكل بلد رؤيته قرب أو بعد والنظر يعطي الفرق بين البلاد النائية كالأندلس والحجاز لا يجب أن يحمل بعضها على بعض لاختلاف مطالعها اختلافا كثيرا وبخاصة ما كان نأيه العرض كثيرا ، وبين القريبة يجب أن يحمل بعضها على بعض ؛ لأنها في قياس الأفق الواحد إذا لم تختلف مطالعها كل الاختلاف .

ا هـ بتلخيص وتصرف وذلك أنه يفيد أن المالكية لم يعمموا رؤية الهلال في قطر جميع أهل الأرض كما زعم المعترض بل أجمعوا على أن رؤيته في قطر كالحجاز لا توجب حكما على من لم يره بقطر ناء عن الحجاز كالأندلس لاختلاف المطلعين اختلافا كثيرا بحيث يكون الغروب في الحجاز زوالا في الأندلس أو نحو ذلك ، وإنما روى ابن القاسم والمصريون عن مالك وجوب الحكم برؤيته في الحجاز على من لم يره بقطر غير ناء كالمدينة ومصر بحيث لا يخالف مطلعه مطلع الحجاز كثيرا بل بنحو الدرجة والدرجتين ، وعدم اعتبار هذا الاختلاف اليسير في وجوب الصوم واعتباره في وجوب الصلاة نظرا لكون اعتباره في وجوب الصلاة يؤدي للصلاة قبل الوقت بخلافه في وجوب الصوم فتأمل بإنصاف بل قد استدل السادة الحنابلة على قولهم بأن رؤية الهلال بمكان قريبا كان أو بعيدا إذا ثبتت لزم الناس كلهم الصوم ، وأن حكم من لم يره حكم من رآه ، ولو اختلفت المطالع نصا قال أحمد الزوال في الدنيا واحد بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم { صوموا لرؤيته } وهو خطاب للأمة كافة ، وبأن الشهر في الحقيقة ما بين الهلالين .

وقد ثبت أن هذا اليوم منه في جميع الأحكام فكذا الصوم ، ولو فرض الخطاب في الخبر للذين رأوه فالغرض حاصل ؛ لأن من صور المسألة وفوائدها ما إذا رآه جماعة ببلد ثم سافروا إلى بلد بعيد فلم ير الهلال به في آخر الشهر مع غيم أو صحو فلا يحل لهم الفطر ولا لأهل ذلك البلد [ ص: 20 ] عن المخالف وعن صورها ما إذا رآه جماعة ثم سارت بهم ريح في سفينة فوصلوا إلى بلد بعيد في آخر الليل لم يلزمهم الصوم في أول الشهر ، ولم يحل لهم الفطر في آخره عندهم ، وهذا كله مصادم لقوله عليه الصلاة والسلام { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته } وأجابوا عن خبر كريب المذكور بأنه دل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده ونحن نقول به ، وإنما الخلاف في وجوب قضاء اليوم الأول ، وليس هو في الحديث قالوا .

وأجاب القاضي عن قول المخالف الهلال يجري مجرى طلوع الشمس وغروبها ، وقد ثبت أن لكل بلد حكم نفسه فكذا الهلال بأن الشمس تتكرر مراعاتها في كل يوم فيؤدي قضاء العبادات إلى كبير المشقة ، والهلال في السنة مرة فليس في قضاء يوم كبير مشقة ، ودليل المسألة من العموم يقتضي التسوية كذا في كشاف القناع شرح الإقناع مع المتن بتصرف والله أعلم .

الإشكال الثاني التفرقة بين المؤذن يقبل فيه الواحد وبين المخبر عن هلال رمضان لا يقبل فيه الواحد مع أن المخبر عن رؤية الهلال على قاعدة المالكية من عموم رؤيته في قطر جميع أهل الأرض خبره أشبه بالرواية من المؤذن فكان ينبغي أن يقبل الواحد قياسا على المؤذن بطريق الأولى ولا ينفع في دفعه أن المعاني الكلية قد يستثنى منها بعض أفرادها بالسمع .

وقد ورد الحديث الصحيح بقوله عليه الصلاة والسلام { إذا شهد عدلان فصوموا وأفطروا وانسكوا } فاشترط عدلين في وجوب الصوم ومع تصريح صاحب الشرع باشتراط عدلين لا يلزمنا بالعدل الواحد شيء ، ولا يسمع الاستدلال بالمناسبات في إبطال النصوص الصريحة ؛ لأنا لا نسلم أن الحديث المذكور يدل بمنطوقه على اشتراط العدلين في وجوب الصوم إنما يدل بمفهومه فإن منطوقه أن الشاهدين يجب عندهما ما ذكر ومفهومه من جهة الشرط أن أحدهما لا يكفي ، والقياس الجلي مقدم على منطوق اللفظ في أحد القولين لمالك وغيره من العلماء فينبغي أن يقدم على المفهوم قولا واحدا ؛ لأن القاضي أبا بكر وغيره يقول [ ص: 21 ] المفهوم ليس بحجة مطلقا ، وهو ضعيف جدا فلا يندفع به القياس الجلي ، وثامنها المخبر عن قدم العيب أو حدوثه في السلع عند التحاكم في الرد بالعيب أطلق الأصحاب القول فيه أنه شهادة ، وأنه يشترط فيه العدد ؛ لأنه حكم جزئي على شخص لشخص معين وهو متجه إلا أنه يعكر على قولهم أنه إذا لم يوجد المسلمون قبل فيه أهل الذمة من الأطباء ونحوهم قاله القاضي أبو الوليد وغيره ونص خليل وقبل للتعذر غير عدول وإن مشركين ا هـ .

قالوا ويكفي الواحد لأن هذا طريقه الخبر فيما ينفردون بعلمه إذ كيف يصرحون بالشهادة مع قبول الكفرة فيها ، والكفار لا مدخل لهم فيها على أصولنا خلافا لأبي حنيفة في الوصية في السفر وشهادة بعضهم على بعض بل لا مدخل لهم في الرواية أيضا ، ولا نسلم حصول العذر بقولهم إن هذا أمر ينفردون بعلمه فإن هؤلاء الكفار يعلمون هذه الأمراض مع إمكان مشاركة غيرهم معهم في العلم بذلك كما أن كل شاهد إنما يخبر عما علمه مع إمكان مشاركة غيره له فيه فتأمل ذلك . وتاسعها خبر المخبر في الهدية والاستئذان ، وإن تعلق بجزئي في الهدية والإذن والمهدي والآذن والمهدى إليه والمأذون له إلا أنه في معنى الرواية لا الشهادة ؛ لأنه لا يقصد به فصل قضاء ، وإنما جوز فيه مالك ما لا يجوز في الرواية من قبول خبر الصبي والكافر في قول ابن القصار قال مالك يجوز تقليد الصبي والأنثى والكافر الواحد في الهدية والاستئذان لإلجاء الضرورة إلى ذلك من جهة لزوم المشقة على تقدير عدم التجويز ، إذ لو كان أحدنا لا يدخل بيت صديقه حتى يأتي بعدل يشهد له بإذنه له في ذلك أو لا يبعث بهديته إلا مع عدل لشق ذلك على الناس مع ندور الخلو عن قرائن تحصيل الظن ، والقواعد يستثنى منها محال الضرورات كما مر غير مرة وعاشرها خبر المخبر في إهداء الزوجة لزوجها ليلة العرس وإن كان إخبارا عن تعيين مباح جزئي إلا أنه في معنى الرواية لا الشهادة ؛ لأنه لا يقصد به فصل قضاء فمن هنا نقل ابن حزم في مراتب الإجماع له إجماع الأمة على قبول قول المرأة الواحدة فيه .

( قلت ) والظاهر قبول خبر الصبي [ ص: 22 ] والكافر فيه أيضا لإلجاء ضرورات الناس إلى تجويز ذلك مع ما اجتمع في هذه الضرورة من قرائن الأحوال من اجتماع الأهل والأقارب وندرة التدليس والغلط في مثل هذا مع شهرته وعدم المسامحة فيه كما تقدم الاستئذان والهدية .

وحادي عشرها خبر القصاب في الذكاة هو في معنى الرواية ؛ لأنه لا يقصد به فصل قضاء ، وإنما جوز فيه مالك قبول خبر الكتابي في قول ابن القصار قال مالك : يقبل قول القصاب في الذكاة ذكرا كان أو أنثى مسلما أو كتابيا ومن مثله يذبح ا هـ لإلجاء الضرورة إلى ذلك للزوم المشقة عند عدم التجويز مع ندور الخلو عن القرائن المحصلة للظن كما سبق في المسألتين قبلها ، فليس المقصود من هذه المسألة ترك القصاب وما يدعيه بالنسبة إلى ملك ما تحت يده حتى تكون من قبيل قاعدة : إن كل أحد مؤتمن على ما يدعيه فإذا قال الكافر هذا مالي أو هذا العبد رقيق لي صدق في ذلك كله كما أن المسلم إذا قال هذا ملكي أو هذه أمتي لم نعده راويا لحكم شرعي ، وإلا لاشترطنا فيه العدالة ولا شاهدا بل نقبله منه ، وإن كان أفسق الناس بل المقصود منها هل يستباح أكلها بناء على خبر القصاب بتذكيتها أم لا فافهم قلت ومن قبيل قول القصاب في الذكاة قول القبطان ونحوه بالوابور في محاذاة الحجاج للميقات الشرعي فيجب عليهم الإحرام بقوله ولو كافرا عند تعذر غيره لإلجاء الضرورة إلى ذلك إلخ ، وإن لم أر من نص عليه بخصوصه فانظره ، وثاني عشرها الخبر بكون الأرض عنوة أو صلحا فيترتب على ذلك أحكام الصلح أو أحكام العنوة من كونها طلقا إلى يوم القيامة أو وقفا إلى يوم القيامة كما قاله مالك الظاهر أن فيه شبه الرواية لا شبه الشهادة ؛ لأنه من جنس الخبر عن وقوع سبب من أسباب الأحكام الشرعية فيكفي فيه الواحد .




الخدمات العلمية