الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              ومن تمام هذا : أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما ، وجاء من حديث غيرهما : أنه يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة والحمار ، وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكلب الأسود والأحمر والأبيض ؛ بأن " الأسود شيطان " ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الشيطان تفلت علي البارحة ليقطع صلاتي ، [ ص: 32 ] فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد الحديث ، فأخبر أن الشيطان أراد أن يقطع عليه صلاته ، فهذا أيضا يقتضي أن مرور الشيطان يقطع الصلاة ، فلذلك أخذ أحمد بذلك في الكلب الأسود واختلف قوله في المرأة والحمار ؛ لأنه عارض هذا الحديث حديث عائشة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهي في قبلته ، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما لما اجتاز على أتانه بين يدي بعض الصف والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه بمنى ، مع أن المتوجه أن الجميع يقطع ، وأنه يفرق بين المار واللابث كما فرق بينهما في الرجل في كراهة مروره دون لبثه في القبلة إذا استدبره المصلي ولم يكن متحدثا ، وأن مروره ينقص ثواب الصلاة دون اللبث .

              واختلف المتقدمون من أصحاب أحمد في الشيطان الجني إذا علم بمروره : هل يقطع الصلاة ؟ والأوجه : أنه يقطعها بتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبظاهر قوله : يقطع صلاتي ؛ لأن الأحكام التي جاءت بها السنة في الأرواح الخبيثة من الجن وشياطين الدواب في الطهارة والصلاة في أمكنتهم وممرهم ونحو ذلك ، قوية في الدليل نصا وقياسا . ولذلك أخذ بها فقهاء الحديث ، ولكن مدرك علمها أثرا هو لأهل الحديث . ومدركه قياسا هو في باطن الشريعة وظاهرها دون التفقه في ظاهرها فقط .

              ولو لم يكن في الأئمة من استعمل هذه السنن الصحيحة النافعة [ ص: 33 ] لكان وصما على الأمة ترك مثل ذلك والأخذ بما ليس بمثله لا أثرا ولا رأيا .

              ولقد كان أحمد رحمه الله يعجب ممن يدع حديث " الوضوء من لحوم الإبل " مع صحته التي لا شك فيها وعدم المعارض له ، ويتوضأ من مس الذكر مع تعارض الأحاديث فيه وأن أسانيدها ليست كأحاديث الوضوء من لحوم الإبل ، ولذلك أعرض عنها الشيخان : البخاري ومسلم ، وإن كان أحمد على المشهور عنه يرجح أحاديث الوضوء من مس الذكر ، لكن غرضه : أن الوضوء من لحوم الإبل أقوى في الحجة من الوضوء من مس الذكر .

              وقد ذكرت ما يبين أنه أظهر في القياس منه ، فإن تأثير المخالطة أعظم من تأثير الملامسة ، ولهذا كان كل نجس محرم الأكل ، وليس كل محرم الأكل نجسا .

              وكان أحمد يعجب أيضا ممن لا يتوضأ من لحوم الإبل ويتوضأ من الضحك في الصلاة ، مع أنه أبعد عن القياس والأثر ، والأثر فيه مرسل قد ضعفه أكثر الناس ، وقد صح عن الصحابة ما يخالفه .

              والذين خالفوا أحاديث القطع للصلاة لم يعارضوها إلا بتضعيف بعضهم ، وهو تضعيف من لم يعرف الحديث كما ذكر أصحابه ، أو بأن عارضوها بروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يقطع الصلاة شيء ، أو بما روي في ذلك عن الصحابة .

              [ ص: 34 ] وقد كان الصحابة مختلفين في هذه المسألة ، أو برأي ضعيف لو صح لم يقاوم هذه الحجة ، خصوصا مذهب أحمد .

              فهذا أصل في الخبائث الجسمانية والروحانية .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية