الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 76 ] سورة البقرة:

قال بعض الأئمة: تضمنت سورة الفاتحة: الإقرار بالربوبية، والالتجاء إليها في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهود والنصارى.

وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين، وآل عمران مكملة لمقصودها.

فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم; ولهذا ورد فيها كثير من المتشابه لما تمسك به النصارى.

فأوجب الحج في آل عمران، وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه، وكان خطاب النصارى في آل عمران، كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر; لأن التوراة أصل، والإنجيل فرع لها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم، وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب; ولهذا كانت السور المكية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء، فخوطب به جميع الناس، والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين، فخوطبوا بـ: يا أهل الكتاب ، يا بني إسرائيل، يأيها الذين آمنوا.

وأما سورة النساء فتضمنت أحكام الأسباب التي بين الناس، وهي نوعان: مخلوقة لله، ومقدورة لهم، كالنسب والصهر; ولهذا افتتحت بقوله: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها 1 [ثم] 2 وقال: [ ص: 77 ] واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام 3.

فانظر إلى هذه المناسبة العجيبة، والافتتاح، وبراعة الاستهلال; حيث تضمنت الآية المفتتح بها ما في أكثر السورة من أحكام; من نكاح النساء ومحرماته، والمواريث المتعلقة بالأرحام، وأن ابتداء هذا الأمر بخلق آدم، ثم خلق زوجته منه، ثم بث منهما رجالا كثيرا ونساء في غاية الكثرة.

[و] 4 أما المائدة فسورة العقود، [و] 4 تضمنت بيان تمام الشرائع، ومكملات الدين، والوفاء بعهود الرسل، وما أخذ على الأمة، وبها تم الدين، فهي سورة التكميل; لأن فيها تحريم الصيد على المحرم، الذي هو من تمام الإحرام، وتحريم الخمر الذي هو من تمام حفظ العقل والدين، وعقوبة المعتدين من السراق والمحاربين، الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال، وإحلال الطيبات، الذي هو من تمام عبادة الله; ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- كالوضوء] 6 والتيمم، والحكم بالقرآن على كل ذي دين. ولهذا كثر فيها لفظ الإكمال والإتمام، وذكر فيها: أن من ارتد عوض الله بخير منه، ولا يزال هذا الدين كاملا; ولهذا ورد أنها آخر ما نزل لما فيها من إرشادات الختم والتمام. وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب. انتهى.

وقال بعضهم: افتتحت البقرة بقوله: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه فإنه إشارة إلى الصراط المستقيم في قوله: اهدنا الصراط المستقيم كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم، قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه، كما أخرج ابن جرير وغيره من حديث علي [ ص: 78 ] مرفوعا: "الصراط المستقيم كتاب الله" "وأخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود موقوفا".

وهذا معنى حسن يظهر فيه سر ارتباط البقرة بالفاتحة.

وقال الخويي: أوائل هذه السورة مناسبة لأواخر سورة الفاتحة; لأن الله تعالى لما ذكر أن الحامدين طلبوا الهدى، قال: قد أعطيتكم ما طلبتم: هذا الكتاب هدى لكم فاتبعوه، وقد اهتديتم إلى الصراط المستقيم المطلوب المسؤول. ثم إنه ذكر في أوائل هذه السورة الطوائف الثلاث الذين ذكرهم في الفاتحة، فذكر الذين على هدى من ربهم، وهم المنعم عليهم، والذين اشتروا الضلالة بالهدى، وهم الضالون، والذين باءوا بغضب من الله، وهم المغضوب عليهم. انتهى.

[و] 2 أقول: قد ظهر لي بحمد الله وجوها من هذه المناسبات:

أحدها: أن القاعدة التي استقرأتها القرآن: أن كل سورة تفصيل لإجمال ما قبلها، وشرح له، وإطناب لإيجازه، وقد استمر معي ذلك في غالب سور القرآن، طويلها وقصيرها، وسورة البقرة قد اشتملت على تفصيل جميع مجملات الفاتحة.

فقوله: الحمد لله تفصيله: ما وقع فيها من الأمر بالذكر في عدة آيات، ومن الدعاء في قوله: أجيب دعوة الداع إذا دعان "186" الآية، وفي قوله: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين "286"، وبالشكر في قوله: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون "152".

وقوله: رب العالمين تفصيله قوله: اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنـزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون "21، 22"، وقوله: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم "29"; ولذلك افتتحها بقصة خلق آدم الذي هو مبدأ البشر، وهو أشرف الأنواع من العالمين، وذلك شرح إجمال رب العالمين

وقوله: الرحمن الرحيم قد أومأ إليه بقوله في قصة [توبة] 3 آدم: فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم "54"، وفي قصة إبراهيم لما سأل الرزق للمؤمنين خاصة [بقوله: وارزق أهله من الثمرات من آمن "126"] ، فقال: ومن كفر فأمتعه قليلا "126"; وذلك لكونه رحمانا.

وما وقع في قصة بني إسرائيل: ثم عفونا عنكم "52" إلى أن أعاد الآية بجملتها في قوله: لا إله إلا هو الرحمن الرحيم "163".

وذكر آية الدين إرشادا للطالبين من العبادة، ورحمة بهم، ووضع عنهم الخطأ والنسيان والإصر، وما لا طاقة لهم به، وختم بقوله: واعف عنا واغفر لنا وارحمنا "286" وذلك شرح قوله: الرحمن الرحيم

[ ص: 80 ] وقوله: مالك يوم الدين "الفاتحة: 4" تفصيله: ما وقع من ذكر يوم القيامة في عدة مواضع; ومنها قوله: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله "284". والدين [في الفاتحة] : الحساب [في البقرة] .

وقوله: إياك نعبد مجمل شامل لجميع أنواع الشريعة الفروعية، وقد فصلت في البقرة أبلغ تفصيل، فذكر فيها: الطهارة، والحيض، والصلاة، والاستقبال، وطهارة المكان، والجماعة، وصلاة الخوف، وصلاة الجمع، والعيد، والزكاة بأنواعها; كالنبات، والمعادن، والاعتكاف، والصوم، وأنواع الصدقات، والبر، والحج، والعمرة، والبيع، والإجارة، والميراث، والوصية، والوديعة، والنكاح، والصداق، والطلاق، والخلع، والرجعة، والإيلاء، والعدة، والرضاع، والنفقات، والقصاص، والديات، وقتال البغاة، والردة، والأشربة، والجهاد، والأطعمة، والذبائح، والأيمان، والنذور، والقضاء، والشهادات، والعتق.

فهذه أبواب الشريعة كلها مذكورة في هذه السورة.

وقوله: وإياك نستعين شامل لعلم الأخلاق. وقد ذكر منها في هذه السورة الجم الغفير; من التوبة، والصبر، والشكر، والرضا، والتفويض، والذكر، والمراقبة، والخوف، وإلانة القول.

وقوله: اهدنا الصراط المستقيم إلى آخره. تفصيله: ما وقع في السورة من ذكر طريق الأنبياء، ومن حاد عنهم من النصارى; ولهذا ذكر في الكعبة أنها قبلة إبراهيم، فهي من صراط الذين أنعم عليهم، وقد حاد عنها اليهود والنصارى معا; ولذلك قال في قصتها: يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم "142"، تنبيها على أنها الصراط الذي سألوا الهداية إليه.

[ ص: 81 ] ثم ذكر: ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك "145"، وهم المغضوب عليهم والضالون الذين حادوا عن طريقهم. ثم أخبر بهداية الذين آمنوا إلى طريقهم. ثم قال:والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم "213". فكانت هاتان الآيتان تفصيل إجمال: اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة.

وأيضا قوله أول السورة: هدى للمتقين "2" إلى آخره في وصف الكتاب، إخبار بأن الصراط الذي سألوا الهداية إليه هو: ما تضمنه الكتاب; وإنما يكون هداية لمن اتصف بما ذكر [من صفات المتقين] . ثم ذكر أحوال الكفرة، ثم أحوال المنافقين، وهم من اليهود، وذلك [أيضا] 1 تفصيل لمن حاد عن الصراط المستقيم، ولم يهتد بالكتاب.

وكذلك قوله هنا: قولوا آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط "136" الآية، فيه تفصيل النبيين المنعم عليهم. وقال في آخرها: لا نفرق بين أحد منهم "136" تعريفا بالمغضوب عليهم والضالين الذين فرقوا بين الأنبياء; ولذلك عقبها بقوله: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا "137" أي: إلى الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم كما اهتديتم.

فهذا ما ظهر لي، والله أعلم بأسرار كتابه.

الوجه الثاني: أن الحديث والإجماع على تفسير المغضوب عليهم باليهود، [ ص: 82 ] والضالين بالنصارى، وقد ذكروا في سورة الفاتحة على حسب ترتيبهم في الزمان، فعقب بسورة البقرة، وجميع ما فيها [من] خطاب أهل الكتاب لليهود خاصة، وما وقع فيها من ذكر النصارى لم يقع بذكر الخطاب.

ثم بسورة آل عمران، وأكثر ما فيها من خطاب أهل الكتاب للنصارى; فإن ثمانين آية من أولها نازلة في وفد نصارى نجران، كما ورد في سبب نزولها، وختمت بقوله: وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله "آل عمران: 199"، وهي في النجاشي وأصحابه من مؤمني النصارى، كما ورد به الحديث. وهذا وجه بديع في ترتيب السورتين; كأنه لما ذكر في الفاتحة الفريقين، قص في كل سورة مما بعدها حال كل فريق على الترتيب الواقع فيها; ولهذا كان صدر سورة النساء في ذكر اليهود، وآخرها في ذكر النصارى.

والوجه الثالث: أن سورة البقرة أجمع سور القرآن للأحكام والأمثال; ولهذا سميت في أثر: "فسطاط القرآن"3، الذي هو: المدينة الجامعة، فناسب تقديمها على جميع سوره.

الوجه الرابع: أنها أطول سورة في القرآن، وقد افتتح بالسبع الطوال، فناسب البداءة بأطولها.

[ ص: 83 ] الوجه الخامس: أنها أول سورة نزلت بالمدينة، فناسب الابتداء بها; فإن للأولية نوعا من الأولوية.

الوجه السادس: أن سورة الفاتحة لما ختمت بالدعاء للمؤمنين بألا يسلك بهم طريق المغضوب عليهم ولا الضالين إجمالا، وختمت سورة البقرة بالدعاء بألا يسلك بهم طريقهم في المؤاخذة بالخطأ والنسيان، وحمل الإصر، وما لا طاقة لهم به تفصيلا، وتضمن آخرها أيضا الإشارة إلى طريق المغضوب عليهم والضالين بقوله: لا نفرق بين أحد من رسله "285" فتآخت السورتان وتشابهتا في المقطع، وذلك من وجوه المناسبة في التتالي والتناسق. وقد ورد في الحديث التأمين في آخر سورة البقرة كما هو مشروع في آخر الفاتحة، فهذه ستة وجوه ظهرت لي، ولله الحمد والمنة.

التالي السابق


الخدمات العلمية