الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء

      الأول المبدي بلا ابتداء والآخر الباقي بلا انتهاء



      ( الأول ) فليس قبله شيء ( المبدئ ) الذي يبدئ الخلق ثم يعيده ( بلا ابتداء ) لأوليته - تعالى - ( والآخر ) فليس بعده شيء ( الباقي ) وكل ما سواه فان ( بلا انتهاء ) لآخريته تعالى ، قال الله عز وجل : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) ، ( الحديد : 3 ) ، وقال تعالى : ( قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون ) ، ( يونس : 34 ) ، وقال تعالى : [ ص: 133 ] ( أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ) ، ( العنكبوت : 19 - 20 ) ، وقال تعالى : ( ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ) ، ( القصص : 88 ) ، وقال تعالى : ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) ، ( الرحمن : 26 - 27 ) ، وقال تعالى : ( يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ) ، ( غافر : 16 ) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم رب السماوات السبع ، ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، فالق الحب والنوى ، منزل التوراة والإنجيل والقرآن ، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ، أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عني الدين ، وأغنني من الفقر . رواه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الصحيحين عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال : دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقلت ناقتي بالباب ، فأتاه ناس من بني تميم ، فقال : اقبلوا البشرى يا بني تميم ، قالوا : قد بشرتنا فأعطنا . مرتين . ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن ، فقال : اقبلوا البشرى يا أهل اليمن ، إذ لم يقبلها بنو تميم ، قالوا : قبلنا يا رسول الله ، قالوا : جئناك نسألك عن أول هذا الأمر ، قال : كان الله ولم يكن شيء غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السماوات والأرض . الحديث .

      وقال عمر رضي الله عنه : قام فينا النبي - صلى الله عليه وسلم - مقاما ، فأخبرنا عن [ ص: 134 ] بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم ، وأهل النار منازلهم ، حفظ ذلك من حفظه ، ونسيه من نسيه . رواه البخاري . وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما : أنه - تعالى - يطوي السماوات بيده ، ثم يقول : أنا الملك أنا الملك ، أنا الجبار المتكبر ، أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ وفي حديث الصور : أنه - عز وجل - إذا قبض أرواح جميع خلقه ، فلم يبق سواه وحده لا شريك له ، حينئذ يقول : لمن الملك اليوم ؟ ثلاث مرات ، ثم يجيب نفسه قائلا : لله الواحد القهار ، أي الذي هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه . ولابن أبي حاتم ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : ينادي مناد بين يدي الساعة ، يا أيها الناس أتتكم الساعة ، فيسمعه الأحياء والأموات ، قال : وينزل الله - عز وجل - إلى السماء الدنيا ، ويقول : لمن الملك اليوم ؟ لله الواحد القهار .

      [ ص: 135 ] قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في أثناء كلامه على هذه الأسماء الأربعة ، وهي الأول والآخر والظاهر والباطن : هي أركان العلم والمعرفة ، فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث ينتهي به قواه وفهمه ، واعلم أن لك أنت أولا وآخرا وظاهرا وباطنا ، بل كل شيء فله أول وآخر ، وظاهر وباطن ، حتى الخطرة واللحظة والنفس ، وأدنى من ذلك وأكثر ، فأولية الله - عز وجل - سابقة على أولية كل ما سواه ، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه ، فأوليته سبقه لكل شيء ، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء ، وظاهريته - سبحانه - فوقيته وعلوه على كل شيء ، ومعنى الظهور يقتضي العلو ، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه ، وبطونه - سبحانه - إحاطته بكل شيء ، بحيث يكون أقرب إليه من نفسه ، وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه ، هذا لون وهذا لون ، فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة ، وهي إحاطتان : زمانية ، ومكانية ، فإحاطة أوليته وآخريته بالقبل والبعد ، فكل سابق انتهى إلى أوليته ، وكل آخر انتهى إلى آخريته ، فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر ، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن ، فما من ظاهر إلا والله فوقه ، وما من باطن إلا والله دونه ، وما من أول إلا والله قبله ، وما من آخر إلا والله بعده ، فالأول قدمه ، والآخر دوامه وبقاؤه ، والظاهر علوه وعظمته ، والباطن قربه ودنوه ، فسبق كل شيء بأوليته ، وبقي بعد كل شيء بآخريته ، وعلا على كل شيء بظهوره ، ودنا من كل شيء ببطونه ، فلا تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضا ، ولا يحجب عنه ظاهر باطنا ، بل الباطن له ظاهر والغيب عنده شهادة ، والبعيد منه قريب ، والسر عنده علانية ، فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد ، فهو الأول في آخريته ، والآخر في أوليته ، والظاهر في بطونه ، والباطن في ظهوره ، لم يزل أولا وآخرا وظاهرا وباطنا ، ثم ساق الكلام على التعبد بهذه الأسماء ، فشفى وكفى رحمه الله تعالى ، ولكن قد أحاط بذلك المعنى تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة المتقدم قريبا بأوجز عبارة وأخصرها ، فسبحان من خصه بجوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية