الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 461 ] 8- باب: ذكر الآيات اللواتي ادعي عليهن النسخ في سورة التوبة

ذكر الآية الأولى: قوله تعالى: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر زعم بعض ناقلي التفسير ممن لا يدري ما ينقل: أن التأجيل منسوخ بآية السيف ، وقال بعضهم منسوخ بقوله: فانبذ إليهم على سواء وهذا سوء فهم ، وخلاف لما عليه المفسرون ، فإن المفسرين اختلفوا فيمن جعلت له هذه الأشهر على أربعة أقوال: أحدها: أنها أمان لأصحاب العهد ، فمن كان عهده أكثر منها حط إليها ، ومن كان عهده أقل منها رفع إليها ، ومن لم يكن له عهد فأجله انسلاخ المحرم خمسون ليلة ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، وإنما كان هذا الأجل خمسين ليلة ، لأن هذه الآيات نودي بها يوم عرفة ، وقيل يوم النحر .

[ ص: 462 ] والثاني: أنها للمشركين كافة من له عهد ومن ليس له عهد ، قاله مجاهد ، والقرظي ، والزهري .

والثالث: أنها أجل من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد أمنه أقل من أربعة أشهر ، وكان أمانه غير محدود ، فأما من لا أمان له فهو حرب ، قاله ابن إسحاق .

والرابع: أنها أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهود ، فأما أرباب العهد فهم على عهودهم قاله ابن السائب ، ويؤكده أن عليا عليه السلام نادى يومئذ: " ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فعهده إلى [ ص: 463 ] مدته " ، وقوله: فإذا انسلخ الأشهر الحرم ، قال الحسن: يعني الأشهر التي قيل لهم فيها فسيحوا في الأرض أربعة أشهر وعلى هذا البيان فلا نسخ أصلا ، وقد قال بعض المفسرين: المراد بالأشهر الحرم: رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وهذا كلام غير محقق ، لأن المشركين إنما قيل لهم فسيحوا في الأرض في ذي الحجة ، فمن ليس له عهد يجوز قتله بعد المحرم ، ومن له عهد فمدته آخر عهده فليس لذكر رجب هاهنا معنى .

[ ص: 464 ] ذكر الآية الثانية: قوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم قد ذكروا في هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أن حكم الأسارى كان وجوب قتلهم ثم نسخ بقوله: فإما منا بعد وإما فداء ، قاله الحسن ، وعطاء ، والضحاك في آخرين ، وهذا يرده قوله: وخذوهم والمعنى ائسروهم .

والثاني: بالعكس فإنه كان الحكم في الأسارى ، أنه لا يجوز قتلهم صبرا ، وإنما يجوز المن أو الفداء ، بقوله: فإما منا بعد وإما فداء ، ثم نسخ ذلك بقوله: فاقتلوا المشركين قاله مجاهد ، وقتادة .

[ ص: 465 ] والثالث: أن الآيتين محكمتان ، لأن قوله: فاقتلوا المشركين أمر بالقتل وقوله: وخذوهم أي: ائسروهم ، فإذا حصل الأسير في يد الإمام فهو مخير إن شاء من عليه وإن شاء فاداه ، وإن شاء قتله صبرا ، أي ذلك رأى في المصلحة للمسلمين، فعلى هذا قول جابر بن زيد ، وعليه عامة الفقهاء ، وقد ذكر بعض من لا فهم له من ناقلي التفسير أن هذه الآية وهي آية السيف نسخت من القرآن مائة وأربعا وعشرين آية ، ثم صار آخرها ناسخا لأولها ، وهو قوله: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم وهذا سوء فهم لأن المعنى: اقتلوهم وأسروهم إلا أن يتوبوا من شركهم ، ويقروا بالصلاة والزكاة فخلوا سبيلهم ولا تقتلوهم .

[ ص: 466 ] ذكر الآية الثالثة: قوله تعالى: إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، في المشار إليهم بهذه المعاهدة ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم بنو ضمرة .

والثاني: قريش ، روي القولان عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال قتادة : هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبي الله زمن الحديبية فنكثوا وظاهروا المشركين .

والثالث: أنهم خزاعة دخلوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد المشركين يوم الحديبية ، وهذا قول مجاهد وقوله: فما استقاموا لكم أي: ما أقاموا على الوفاء بعهدهم فاستقيموا لهم ، قال بعض المفسرين: ثم نسخ هذا بآية السيف .

[ ص: 467 ] ذكر الآية الرابعة: قوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها عامة في أهل الكتاب والمسلمين ، قاله أبو ذر والضحاك .

والثاني: أنها خاصة في أهل الكتاب ، قاله معاوية بن أبي سفيان .

والثالث: أنها في المسلمين ، قاله ابن عباس والسدي ، وفي المراد بالإنفاق ، هاهنا قولان: [ ص: 468 ] أحدهما: إخراج الزكاة ، وهذا مذهب الجمهور ، والآية على هذا محكمة .

" أخبرنا عبد الأول بن عيسى ، قال: أبنا محمد بن عبد العزيز الفارسي ، قال: أبنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، قال: أبنا عبد الله بن محمد البغوي ، قال: أبنا العلاء بن موسى الباهلي ، قال: أبنا الليث بن سعد ، عن نافع ، أن عبد الله بن عمر ، قال: " ما كان من مال تؤدى زكاته ، فإنه ليس بكنز ، وإن كان مدفونا وما ليس مدفونا لا تؤدي زكاته ، فإنه الكنز الذي ذكره الله عز وجل في كتابه والثاني: أن المراد بالإنفاق إخراج ما فضل عن الحاجة ، وقد زعم بعض نقلة التفسير: أنه كان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام ، ثم نسخ بالزكاة ، وفي هذا القول بعد .

[ ص: 469 ] " وقد أخبرنا المبارك بن علي ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش ، قال: أبنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن العباس ، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود ، قال: أبنا عبد الله بن سعيد ، قال: أبنا أبو أسامة عن عمر بن راشد ، أو غيره أن عمر بن عبد العزيز ، وعراك بن مالك ، قالا في هذه الآية: " والذين يكنزون الذهب والفضة نسختها الآية الأخرى خذ من أموالهم صدقة .

ذكر الآية الخامسة: قوله تعالى: إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما .

" أخبرنا ابن ناصر ، قال: أبنا علي بن أيوب ، قال: أبنا ابن شاذان ، قال: أبنا أبو بكر النجاد ، قال: أبنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا أحمد بن محمد ، قال: أبنا علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، [ ص: 470 ] عن ابن عباس رضي الله عنهما " إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما نسختها وما كان المؤمنون لينفروا كافة .

وقد روي مثل هذا عن الحسن ، وعكرمة ، وهذا ليس بصحيح ، لأنه لا تنافي بين الآيتين ، وإنما حكم كل آية قائم في موضعها ، فإن قلنا: إن قوله إلا تنفروا أريد به غزوة تبوك فإنه كان قد فرض على الناس كافة النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا عاتب المخلفين وجرت قصة الثلاثة الذين خلفوا ، وإن قلنا إن الذين استنفروا حي من العرب معروف كما ذكرنا في التفسير عن ابن عباس ، فإنه قال: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه ، وأمسك عنهم المطر فكان عذابهم ، فإن أولئك وجب عليهم النفير حين استنفروا ، وقد ذهب إلى إحكام الآيتين ومنع النسخ جماعة منهم: ابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي ، وحكى القاضي [ ص: 471 ] أبو يعلى عن بعض العلماء ، أنهم قالوا: ليس هاهنا نسخ ، ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدو ، ففرض على الناس النفير إليهم ، ومتى استغنوا عن إعانة من وراءهم ، عذر القاعدون عنهم ذكر الآية السادسة: قوله تعالى: انفروا خفافا وثقالا .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: قال في براءة: " انفروا خفافا وثقالا ، وقال: إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ، فنسخ هؤلاء الآيات ، وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، وقال السدي : نسخت بقوله: ليس على الضعفاء ولا على المرضى ، [ ص: 472 ] واعلم: أنه متى حملت هذه الآية على ما حملنا عليه التي قبلها لم يتوجه نسخ .

ذكر الآية السابعة: قوله تعالى: لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله .

" أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أبنا عمر بن عبيد الله ، قال: أبنا ابن بشران ، قال: أبنا إسحاق بن أحمد ، قال: أبنا عبد الله بن أحمد ، قال: حدثني أبي ، قال: أبنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر نسختها إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه أخبرنا ابن ناصر ، قال: أبنا ابن أيوب ، قال: أبنا ابن شاذان ، قال: أبنا أبو بكر النجاد ، قال: أبنا أبو داود السجستاني ، قال: أبنا محمد بن أحمد ، قال: أبنا علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن [ ص: 473 ] عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما " لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله نسختها: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله .

قلت: فالصحيح أنه ليس للنسخ هاهنا مدخل ، لإمكان العمل بالآيتين ، وذلك أنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود على الجهاد من غير عذر ، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة ، وكان المنافقون إذا كانوا معه ، فعرضت لهم حاجة ، ذهبوا من غير استئذانه ، وإلى نحو هذا ، ذهب أبو جعفر بن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي .

[ ص: 474 ] ذكر الآية الثامنة: قوله تعالى: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم لفظ هذه الآية لفظ الأمر وليس كذلك ، وإنما المعنى: إن استغفرت لهم ، وإن لم تستغفر لهم لا يغفر الله لهم ، فهو كقوله تعالى: أنفقوا طوعا أو كرها ، فعلى هذا الآية محكمة ، هذا قول المحققين ، وقد ذهب قوم إلى أن ظاهر اللفظ يعطي أنه إن زاد على السبعين رجي لهم الغفران ، ثم نسخت بقوله: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم فروى الضحاك ، عن ابن عباس رضي الله عنهما استغفر لهم أو لا تستغفر لهم نسخت بقوله: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم .

" أخبرنا عبد الوهاب الحافظ ، قال: أبنا أبو طاهر الباقلاوي ، قال: أبنا أبو علي بن شاذان ، قال: أبنا عبد الرحمن بن الحسن ، قال: أبنا إبراهيم بن الحسين ، قال: أبنا آدم ، قال: أبنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال: " لما نزلت إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، [ ص: 475 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سأزيد على سبعين مرة ، فأنزل الله تعالى في سورة المنافقين لن يغفر الله لهم عزما .

وقد حكى أبو جعفر النحاس أن بعض العلماء ، قال: فنسخت بقوله: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا .

قلت: والصحيح إحكام الآية على ما سبق .

ذكر الآية التاسعة: قوله تعالى: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله قد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن هذه الآية اقتضت أنه لا يجوز لأحد أن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا كان في أول الأمر [ ص: 476 ] ثم نسخ ذلك بقوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، قال أبو سليمان الدمشقي : لكل آية وجهها وليس للنسخ على إحدى الآيتين طريق ، وهذا هو الصحيح على ما بينا في الآية الخامسة .

التالي السابق


الخدمات العلمية