الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثالث عشر من القوادح ( النقض ك ) قول المستدل ( الحلي مال غير نام فلا زكاة فيه ، كثياب البذلة فيعترض ) عليه ( بالحلي المحرم . وجوابه ) أي جواب هذا الاعتراض إما ( بمنع وجود العلة في صورة النقض ) لأن النقض إنما يتحقق بوجود العلة [ ص: 555 ] وتخلف الحكم عنها . فإذا منع وجود العلة لم يتحقق النقض . وإنما تخلف الحكم في الصورة المذكورة لعدم علته ، فهو يدل على صحة علته عكسا ، وهو انتفاء الحكم لانتفائها ، كقوله : لا نسلم أن الحلي كثياب البذلة . ويبرهن على ذلك ( أو ) يكون جوابه ( بمنع وجود الحكم فيها ) أي في صورة النقض . فيقول : حكم ثياب البذلة مخالف لحكم الحلي ، ويبين الفرق بينهما ( و ) إذا منع المستدل وجود العلة في صورة النقض ، ف ( ليس للمعترض الدلالة على وجود العلة فيها ) أي في صورة النقض . وهذا الصحيح ، وعليه الأكثر . وذلك ; لأنها انتقال ، ويلزم منه أن يكون المعترض مستدلا ، فهو قلب لقاعدة المصطلح ; لكونه يبقى مستدلا والمستدل معترضا .

وقال القاضي أبو يعلى والقاضي أبو الطيب الشافعي : إلا أن يبين مذهب المانع . وقيل : له ذلك ويمكن ; لأن فيه تحقيقا لاعتراضه بالنقض . واختاره الآمدي إن تعذر الاعتراض بغيره ، واختاره بعضهم إن لم يكن طريق أولى بالقدح من النقض ، تحقيقا لفائدة المناظرة ( و ) قال أهل الجدل وجمع منهم الآمدي ( لو دل المستدل على وجودها ) أي وجود العلة ( بدليل موجود في صورة النقض ) فنقض المعترض العلة ، فمنع المستدل وجود العلة في محل النقض ( فقال المعترض : ينتقض دليلك ) حينئذ ; لأنه موجود في محل النقض ، والعلة غير موجودة فيه على زعمك ( فقد انتقل ) المعترض ( من نقضها ) أي نقض العلة ( إلى نقض دليلها فلا يقبل ) ، ( ويكفي المستدل دليل يليق بأصله ) ومثلوا لذلك بقول الحنفي في مسألة تبييت النية : أتى بمسمى الصوم . فيصح كما في محل الوفاق . واستدل على وجود الصوم بأنه إمساك مع النية ، وهو موجود في محل النزاع ، فيقول المعترض تنتقض العلة بما إذا نوى بعد الزوال ، فيقول المستدل : لا نسلم وجود العلة فيما إذا نوى بعد الزوال ، فيقول المعترض : ينتقض دليلك الذي استدللت به على وجود العلة في محل التعليل . قال ابن الحاجب في مختصره : وفيه نظر ; لأن المعترض في معرض القدح في العلة ، فتارة يقدح فيها ، وتارة يقدح في دليلها ، والانتقال من القدح في العلة إلى القدح في دليلها جائز ، والانتقال الذي لا يكون جائزا : هو [ ص: 556 ] الانتقال من الاعتراض إلى الاستدلال ( ولو قال ) المعترض ( ابتداء : يلزمك انتقاض علتك ، أو ) انتقاض ( دليلها : قبل ) منه ذلك ; لأن هذا دعوى أحد أمرين فكأنه قال : يلزمك أحد أمرين : إما انتقاض علتك ، وإما انتقاض دليلها . وكيف كان فلا تثبت العلة كان مسموعا باتفاق .

قال الأصفهاني : أما إذا قال ابتداء : يلزمك إما انتقاض علتك ، أو انتقاض دليل علتك ; لأنك إن اعتقدت وجود العلة في محل النقض انتقضت علتك . وإن اعتقدت عدم العلة في محل النقض : انتقض دليلك . كان متجها مسموعا ( ولو منع المستدل تخلف الحكم في صورة النقض ) فعلى الأصح ( لم يمكن المعترض أن يدل عليه ) أي على تخلف الحكم في صورة النقض . وقيل : يمكن مطلقا ، وقيل : يمكن ما لم يكن له طريق أولى بالقدح من النقض . مثال ذلك : قول الشافعي في مسألة الثيب الصغيرة : ثيب فلا تجبر ، كالثيب الكبيرة ، فيقول المعترض : ينتقض بالثيب المجنونة . فيقول المستدل : لا نسلم جواز إجبار الثيب المجنونة . وقال ابن برهان : إن منع الحكم انقطع الناقض ، وإن منع الوصف فلا ينقطع فيدل عليه . وحكاه بعض أصحابنا عن أبي الخطاب وابن عقيل ، وعلله في التمهيد بأنه بيان للنقض لا من جهة الدلالة عليه ، فجاز ( ويكفي المستدل ) في دفع النقض أن يقول ( لا أعرف الرواية فيها ) ذكره أصحابنا ، للشك في كونها من مذهبه ; إذ دليله صحيح . فلا يبطل بمشكوك فيه ( وإن قال ) المستدل ( أنا أحملها على مقتضى القياس ، وأقول فيها كمسألة الخلاف . منع ) ; لأنه إثبات مذهب بالقياس ( إلا إن نقل عن إمامه ) أي إمام المستدل ( أنه علل بها ، فيجريها ) على حكم تعليل إمامه ( وإن فسر المستدل لفظه بدافع ) أي بمعنى دافع ( للنقض غير ظاهره ) أي ظاهر اللفظ ( ك ) تفسير لفظ ( عام ب ) معنى ( خاص لم يقبل ) ذكره القاضي وأبو الخطاب ، وابن عقيل والقاضي أبو الطيب الشافعي وغيرهم ; لأنه يزيد وصفا لم يكن .

وذكره للعلة وقت حاجته ، فلا يؤخر عنه ، بخلاف تأخير الشارع البيان عن وقت خطابه ، وظاهر كلام بعض أصحابنا : يقبل ( ولو أجاب ) [ ص: 557 ] المستدل ( بتسوية بين أصل وفرع لدفعه ) أي لأجل دفع النقض ( قبل ) عند أكثر أصحابنا والحنفية ، ومنعه الشافعية وابن عقيل . وذكره عن المحققين ، وأجازه أبو الخطاب إن جاز تخصيص العلة ; لأن الطرد ليس شرطا لعلة إذا . فإن قيل : من شرط القياس أن لا يستوي الأصل والفرع ، رد بأنه باطل . مثاله في المسح على العمامة : عضو يسقط في التيمم ، فمسح حائله كالقدم ، فينتقض بالرأس في الطهارة الكبرى ، فيجيبه : يستوي فيها الأصل والفرع .

ومثل ذلك : بائن معتدة فلزمها الإحداد ، كالمتوفى عنها زوجها ، فينتقض بالذمية والصغيرة ، فيجيبه بالتسوية ( ولا يلزم ) المستدل ( بما لا يقول به ) أي بشيء لا يعتقد صحته ( المعترض كمفهوم ، وقياس ، وقول ) أي مذهب ( صحابي ) ; لأنه احتج وأثبت الحكم بلا دليل ، ولاتفاقهما على تركه ; لأن أحدهما لا يراه دليلا . والآخر لما خالفه دل على دليل أقوى منه ( إلا النقض والكسر على قول من التزمهما ) ; لأن الناقض لم يحتج بالنقض ، ولا أثبت الحكم به ، ولاتفاقهما على فساد العلة على أصل المستدل بصورة الإلزام ، وعلى أصل المعترض بمحل النزاع . ذكره أصحابنا والشافعية وغيرهم ، وجوز بعضهم معارضته بعلة منتقضة على أصل المعترض . وقال ابن عقيل : إن احتج بما لا يراه ، كحنفي بخبر واحد فيما تعم به البلوى . فقال : أنت لا تقول به ، فأجاب : أنت تقول به ، فيلزمك . فهذا قد استمر عليه أكثر الفقهاء ، قال ابن عقيل : وعندي لا يحسن مثل هذا ; لأنه إذا إنما هو مستدل صورة .

قال : ومن نصر الأول قال : على هذا لا يحسن بنا أن نحتج على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالتوراة والإنجيل المبدلين ، لكن نحتج به على أهل الكتاب لتصديقهم به . انتهى ( وإن نقض أحدهما ) أي المستدل والمعترض ( علة الآخر بأصل نفسه ) لم يجز عند أصحابنا والشافعية ( أو زاد المستدل وصفا معهودا معروفا في العلة لم يجز ) ذكره أبو الخطاب في التمهيد وابن عقيل في الواضح قال ابن مفلح : ويتوجه احتمال ، وفاقا لبعض الجدليين وبعض الشافعية ( وإن نقض ) المعترض دليل المستدل ( ب ) ناقض ( منسوخ ، أو ب ) حكم ( خاص به ) أي بالنبي ( صلى الله عليه وسلم أو ) نقضه ( برخصة ثابتة على خلاف مقتضى الدليل ، أو ) نقضه ( بموضع استحسان رد ) نقضه عند أصحابنا والشافعية ، إلا أن أبا الخطاب قال في نقض العلة بموضع الاستحسان : يحتمل وجهين . ومثله بما إذا سوى بين العمد والسهو فيما يبطل العبادة ، فينتقض بأكل الصائم سهوا . وفي الواضح لابن عقيل عن أصحابنا والشافعية لا نقض بموضع استحسان .

ومثل بهذا ثم قال : يقول المعترض : النص دل على انتقاضه ، فيكون آكد للنقض ، وعند الشيخ تقي الدين : تنتقض المستنبطة إن لم يبين مانعا ، كالنقض بالعرايا في الربا ، وإيجاب الدية على العاقلة ; لاقتضاء المصلحة الخاصة ذلك ، أو لدفع مفسدة آكد ، كحل الميتة للمضطر إذا نقض بها علة تحريم النجاسة ( ويجب أن يحترز المستدل في دليله عن النقض ) اختاره ابن عقيل في الواضح ، والموفق في الروضة ، والطوفي في مختصره وأبو محمد البغدادي ، وذكره عن معظم الجدليين ، لقربه من الضبط ، ودفع انتشار الكلام وسد بابه فكان واجبا لما فيه من صيانة الكلام عن التبديل .

وقيل : لا يجب مطلقا ، وقيل : يجب إلا في نقض وطرد بطريق الاستثناء ، وهي ما يرد على كل علة ( وإن احترز عنه ) أي عن النقض ( بشرط ذكره في الحكم ) نحو : حران مكلفان محقونا الدم ، فيجب القود بينهما كالمسلمين ( صح ) ذلك في الأصح ; لأن الشرط المتأخر متقدم في المعنى كتقديم المفعول على الفاعل . واختاره أبو الخطاب ، وقيل : لا يصح ; لاعترافه بالنقض ، فإن الحكم يتخلف عن الأوصاف في الخطإ ( وإن احترز ) المستدل ( بحذف الحكم لم يصح ) قاله أبو الخطاب . كقول حنفي في الإحداد على المطلقة : بائن كالمتوفى عنها زوجها . فينتقض بصغيرة وذمية . فيقول : قصدت التسوية بينهما . فيقال : التسوية بينهما حكم ، فيحتاج إلى أصل يقاس عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية