الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين

ذكر الله تعالى عن عيسى أنه أجابهم إلى دعاء الله في أمر المائدة؛ فروي أنه لبس جبة شعر؛ ورداء شعر؛ وقام يصلي؛ ويبكي؛ ويدعو.

و "اللهم"؛ عند سيبويه أصلها: "يا الله"؛ فجعلت الميمان بدلا من "يا"؛ و"ربنا"؛ منادى آخر؛ ولا يكون صفة؛ لأن "اللهم"؛ يجرى مجرى الأصوات؛ من أجل ما لحقه من التغيير.

وقرأ الجمهور: "تكون لنا"؛ على الصفة للمائدة؛ وقرأ ابن مسعود ؛ والأعمش : "تكن لنا"؛ على جواب "أنزل".

و"العيد": المجتمع؛ واليوم المشهود؛ وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة؛ أو بالشهر؛ والجمعة؛ ونحوه؛ وهو من "عاد؛ يعود"؛ فأصله الواو؛ ولكن لزمته الياء من أجل كسرة العين.

وقرأ جمهور الناس: "لأولنا وآخرنا"؛ وقرأ زيد بن ثابت ؛ وابن محيصن؛ والجحدري: "لأولانا وأخرانا".

واختلف المتأولون في معنى ذلك؛ فقال السدي ؛ وقتادة ؛ وابن جريج ؛ وسفيان : "لأولنا"؛ معناه: لأول الأمة؛ ثم لمن بعدهم؛ حتى لآخرها؛ يتخذون ذلك اليوم عيدا؛ وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المعنى: [ ص: 302 ] "يكون مجتمعا لجميعنا؛ أولنا؛ وآخرنا"؛ قال: وأكل من المائدة حين وضعت أول الناس؛ كما أكل آخرهم.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فالعيد - على هذا - لا يراد به المستدير.

وقوله: "وآية منك"؛ أي: علامة على صدقي؛ وتشريفي؛ فأجاب الله دعوة عيسى؛ وقال: إني منزلها عليكم ؛ ثم شرط عليهم شرطه المتعارف في الأمم؛ أنه من كفر بعد آية الاقتراح عذب أشد عذاب.

وقرأ نافع ؛ وابن عامر ؛ وعاصم : "إني منزلها"؛ بفتح النون؛ وشد الزاي؛ وقرأ الباقون: "منزلها"؛ بسكون النون؛ والقراءتان متجهتان؛ "نزل"؛ و"أنزل"؛ بمعنى واحد؛ وقرأ الأعمش ؛ وطلحة بن مصرف : "قال الله إني سأنزلها عليكم".

واختلف الناس في نزول المائدة؛ فقال الحسن بن أبي الحسن؛ ومجاهد : إنهم لما سمعوا الشرط في تعذيب من كفر استعفوها؛ فلم تنزل؛ قال مجاهد : فهو مثل ضربه الله تعالى للناس لئلا يسألوا هذه الآيات؛ وقال جمهور المفسرين: نزلت المائدة؛ ثم اختلفت الروايات في كيفية ذلك؛ فروى الشعبي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: نزلت المائدة خبزا؛ وسمكا؛ وقال عطية: المائدة سمكة فيها طعم كل طعام؛ قال ابن عباس : نزل خوان عليه خبز وسمك؛ يأكلون منه أينما نزلوا؛ إذا شاؤوا؛ وقاله وهب بن منبه ؛ قال إسحاق بن عبد الله : نزلت المائدة عليها سبعة أرغفة؛ وسبعة أحوات؛ قال: فسرق منها بعضهم؛ فرفعت؛ وقال عمار بن ياسر : سألوا عيسى - عليه السلام - مائدة يكون عليها طعام لا ينفد؛ فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم؛ ما لم تخبئوا؛ أو تخونوا؛ فإن فعلتم عذبتم؛ قال: فما مضى يوم حتى خبؤوا؛ وخانوا؛ فمسخوا قردة وخنازير؛ وقال ابن عباس - في المائدة أيضا -: كان طعاما ينزل عليهم حيثما نزلوا؛ وقال عمار بن ياسر : نزلت المائدة عليها ثمار من ثمار الجنة؛ وقال ميسرة: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليها الأيدي بكل طعام؛ إلا اللحم.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وكثر الناس في قصص هذه المائدة بما رأيت اختصاره لعدم سنده؛ وقال قوم: لا يصح ألا تنزل المائدة؛ لأن الله تعالى أخبر أنه منزلها.

[ ص: 303 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا غير لازم؛ لأن الخبر مقرون بشرط يتضمنه قوله: فمن يكفر بعد منكم ؛ وسائغ ما قال الحسن؛ أما إن الجمهور على أنها نزلت؛ وكفرت جماعة منهم؛ فمسخهم الله خنازير؛ قاله قتادة ؛ وغيره؛ وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة؛ والمنافقون؛ وآل فرعون؛ ويذكر أن شمعون؛ رأس الحواريين؛ قال لعيسى - عليه السلام - حين رأى طعام المائدة: يا روح الله؛ أمن طعام الدنيا هو؛ أم من طعام الآخرة؟ قال عيسى - عليه السلام -: "ألم ينهكم الله عن هذه السؤالات؟ هذا طعام ليس من طعام الدنيا؛ ولا من طعام الآخرة؛ بل هو بالقدرة الغالبة؛ قال الله له: كن؛ فكان"؛ وروي أنه كان على المائدة بقول؛ سوى الثوم؛ والكراث؛ والبصل؛ وقيل: كان عليها زيتون؛ وتمر؛ وحب؛ ورمان.

التالي السابق


الخدمات العلمية