الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما ( 51 ) ) [ ص: 291 ]

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ) فقال بعضهم : عنى بقوله : ترجي : تؤخر ، وبقوله : تؤوي : تضم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( ترجي من تشاء منهن ) يقول : تؤخر .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( ترجي من تشاء منهن ) قال : تعزل بغير طلاق من أزواجك من تشاء ( وتؤوي إليك من تشاء ) قال : تردها إليك .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ) قال : فجعله الله في حل من ذلك أن يدع من يشاء منهن ، ويأتي من يشاء منهن بغير قسم ، وكان نبي الله يقسم .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام قال : ثنا عمرو ، عن منصور ، عن أبي رزين ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ) قال : لما أشفقن أن يطلقهن ، قلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ، فكان ممن أرجأ منهن سودة بنت زمعة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة ، وكان ممن آوى إليه عائشة وأم سلمة وحفصة وزينب .

حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ) فما شاء صنع في القسمة بين النساء ، أحل الله له ذلك .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي رزين في قوله ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ) وكان ممن آوى إليه عليه الصلاة والسلام : عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة ؛ فكان قسمه من نفسه لهن سوى [ ص: 292 ] قسمه . وكان ممن أرجى : سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة ؛ فكان يقسم لهن ما شاء ، وكان أراد أن يفارقهن ، فقلن له : اقسم لنا من نفسك ما شئت ، ودعنا نكون على حالنا .

وقال آخرون : معنى ذلك : تطلق وتخلي سبيل من شئت من نسائك ، وتمسك من شئت منهن فلا تطلق .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( ترجي من تشاء منهن ) أمهات المؤمنين ( وتؤوي إليك من تشاء ) يعني : نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويعني بالإرجاء : يقول : من شئت خليت سبيله منهن . ويعني بالإيواء : يقول : من أحببت أمسكت منهن .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : تترك نكاح من شئت ، وتنكح من شئت من نساء أمتك .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : قال الحسن في قوله ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ) قال : كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أن يخطبها حتى يتزوجها أو يتركها . وقيل : إن ذلك إنما جعل الله لنبيه حين غار بعضهن على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وطلب بعضهن من النفقة زيادة على الذي كان يعطيها ، فأمره الله أن يخيرهن بين الدار الدنيا والآخرة ، وأن يخلي سبيل من اختار الحياة الدنيا وزينتها ، ويمسك من اختار الله ورسوله . فلما اخترن الله ورسوله قيل لهن : اقررن الآن على الرضا بالله وبرسوله ؛ قسم لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لم يقسم ، أو قسم لبعضكن ولم يقسم لبعضكن ، وفضل بعضكن [ ص: 293 ] على بعض في النفقة أو لم يفضل ، سوى بينكن أو لم يسو ، فإن الأمر في ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ليس لكم من ذلك شيء ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر مع ما جعل الله له من ذلك يسوي بينهن في القسم ، إلا امرأة منهن أراد طلاقها فرضيت بترك القسم لها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا أبو أحمد قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين قال : لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطلق أزواجه ، قلن له : افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت ، فأمره الله فآوى أربعا ، وأرجى خمسا .

حدثنا سفيان بن وكيع قال : ثنا عبيدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل حتى أنزل الله ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ) فقلت : إن ربك ليسارع في هواك .

حدثنا ابن وكيع قال : ثنا محمد بن بشر ؛ يعني العبدي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها كانت تعير النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت : أما تستحي امرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ، فنزلت ، أو فأنزل الله ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت ) فقلت : إني لأرى ربك يسارع لك في هواك .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ) الآية . قال : كان أزواجه قد تغايرن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهجرهن شهرا ، ثم نزل التخيير من الله له فيهن ، فقرأ حتى بلغ ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) فخيرهن [ ص: 294 ] بين أن يخترن أن يخلي سبيلهن ويسرحهن ، وبين أن يقمن إن أردن الله ورسوله على أنهن أمهات المؤمنين ، لا ينكحن أبدا ، وعلى أنه يؤوي إليه من يشاء منهن ممن وهبت نفسها له ، حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ، ويرجي من يشاء حتى يكون هو يرفع رأسه إليها ، ومن ابتغى ممن هي عنده وعزل فلا جناح عليه ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين إذا علمن أنه من قضائي عليهن إيثار بعضهن على بعض ( ذلك أدنى أن ) يرضين ، قال ( ومن ابتغيت ممن عزلت ) من ابتغى أصابه ، ومن عزل لم يصبه ، فخيرهن بين أن يرضين بهذا ، أو يفارقهن ، فاخترن الله ورسوله ، إلا امرأة واحدة بدوية ذهبت ، وكان على ذلك صلوات الله عليه ، وقد شرط الله له هذا الشرط ، ما زال يعدل بينهن حتى لقي الله .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - جعل لنبيه أن يرجي من النساء اللواتي أحلهن له من يشاء ، ويؤوي إليه منهن من يشاء ، وذلك أنه لم يحصر معنى الإرجاء والإيواء على المنكوحات اللواتي كن في حباله عندما نزلت هذه الآية دون غيرهن ممن يستحدث إيواؤها أو إرجاؤها منهن .

إذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : تؤخر من تشاء ممن وهبت نفسها لك ، وأحللت لك نكاحها ، فلا تقبلها ولا تنكحها ، أو ممن هن في حبالك ؛ فلا تقربها . وتضم إليك من تشاء ممن وهبت نفسها لك أو أردت من النساء اللاتي أحللت لك نكاحهن ؛ فتقبلها أو تنكحها ، وممن هي في حبالك ؛ فتجامعها إذا شئت وتتركها إذا شئت بغير قسم .

وقوله ( ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ؛ فقال بعضهم : معنى ذلك ومن نكحت من نسائك فجامعت ممن لم تنكح ، فعزلته عن الجماع ، فلا جناح عليك .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله ( ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ) قال : جميعا هذه في نسائه ؛ إن شاء أتى من [ ص: 295 ] شاء منهن ، ولا جناح عليه .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( ومن ابتغيت ممن عزلت ) قال : ومن ابتغى أصابه ، ومن عزل لم يصبه .

وقال آخرون : معنى ذلك : ومن استبدلت ممن أرجيت ، فخليت سبيله من نسائك ، أو ممن مات منهن ممن أحللت لك فلا جناح عليك .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن ) يعني بذلك : النساء اللاتي أحل الله له من بنات العم والعمة والخال والخالة ( اللاتي هاجرن معك ) يقول : إن مات من نسائك اللاتي عندك أحد ، أو خليت سبيله ، فقد أحللت لك أن تستبدل من اللاتي أحللت لك مكان من مات من نسائك اللاتي هن عندك ، أو خليت سبيله منهن ، ولا يصلح لك أن تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك شيئا .

وأولى التأويلين بالصواب في ذلك : تأويل من قال : معنى ذلك : ومن ابتغيت إصابته من نسائك ( ممن عزلت ) عن ذلك منهن ( فلا جناح عليك ) لدلالة قوله ( ذلك أدنى أن تقر أعينهن ) على صحة ذلك ، لأنه لا معنى لأن تقر أعينهن إذا هو - صلى الله عليه وسلم - استبدل بالميتة أو المطلقة منهن ، إلا أن يعني بذلك : ذلك أدنى أن تقر أعين المنكوحة منهن ، وذلك مما يدل عليه ظاهر التنزيل بعيد .

وقوله ( ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ) يقول : هذا الذي جعلت لك يا محمد من إذني لك أن ترجي من تشاء من النساء اللواتي جعلت لك إرجاءهن ، وتؤوي من تشاء منهن ، ووضعي عنك الحرج في ابتغائك إصابة من [ ص: 296 ] ابتغيت إصابته من نسائك ، وعزلك عن ذلك من عزلت منهن ، أقرب لنسائك أن تقر أعينهن به ولا يحزن ، ويرضين بما آتيتهن كلهن من تفضيل من فضلت من قسم ، أو نفقة وإيثار من آثرت منهم بذلك على غيره من نسائك ، إذا هن علمن أنه من رضاي منك بذلك ، وإذني لك به ، وإطلاق مني لا من قبلك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن ) إذا علمن أن هذا جاء من الله لرخصة ، كان أطيب لأنفسهن ، وأقل لحزنهن .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ذلك ، نحوه .

والصواب من القراءة في قوله ( بما آتيتهن كلهن ) الرفع غير جائز غيره عندنا ، وذلك أن كلهن ليس بنعت للهاء في قوله ( آتيتهن ) ، وإنما معنى الكلام : ويرضين كلهن ، فإنما هو توكيد لما في يرضين من ذكر النساء ، وإذا جعل توكيدا للهاء التي في آتيتهن لم يكن له معنى ، والقراءة بنصبه غير جائزة لذلك ، ولإجماع الحجة من القراء على تخطئة قارئه كذلك .

وقوله ( والله يعلم ما في قلوبكم ) يقول : والله يعلم ما في قلوب الرجال من ميلها إلى بعض من عنده من النساء دون بعض بالهوى والمحبة ، يقول : فلذلك وضع عنك الحرج يا محمد فيما وضع عنك من ابتغاء من ابتغيت منهن ، ممن عزلت تفضلا منه عليك بذلك وتكرمة ( وكان الله عليما ) يقول : وكان الله ذا علم بأعمال عباده ، وغير ذلك من الأشياء كلها ( حليما ) يقول : ذا حلم على عباده ، أن يعاجل أهل الذنوب منهم بالعقوبة ، ولكنه ذو حلم وأناة عنهم ليتوب من تاب منهم ، وينيب من ذنوبه من أناب منهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية