الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الخامس عشر من القوادح ( المعارضة في الأصل ) وهو أن يبدي المعترض معنى آخر يصلح للعلية غير ما علل به المستدل ، وهو إما أن يكون ( بمعنى آخر مستقل ) بالتعليل . كما لو علل الشافعي تحريم ربا الفضل في البر بالطعم ، فعارضه الحنفي بتعليل تحريمه بالكيل أو الجنس أو القوت ( أو ) تكون المعارضة بمعنى آخر ( غير مستقل ) بالتعليل . ولكنه داخل فيه وصالح له كما لو علل الشافعي وجوب القصاص في القتل بالمثقل العمد العدوان . فعارضه الحنفي بتعليل وجوبه بالجارح . وقد اختلف الجدليون في قبول هذه المعارضة ( والثاني ) وهو كون المعارضة بمعنى غير مستقل بالتعليل ( مقبول ) عند الجمهور ; لئلا يلزم التحكم ; لأن وصف المستدل ليس بأولى بكونه جزءا أو مستقلا . فإن رجح استقلاله بتوسعة الحكم في الأصل والفرع فتكثر الفائدة . فللمعترض منع دلالة الاستقلال عليها ، ثم له معارضته بأن الأصل انتفاء الأحكام ، و باعتبارهما معا فهو أولى .

قالوا : يلزم منه استقلالهما بالعلية فيلزم تعدد العلة المستقلة . رد بالمنع لجواز اعتبارهما معا ، كما لو أعطى قريبا عالما ( ولا يلزم المعترض بيان نفي وصف المعارضة عن الفرع ) هذا بحث يتفرع على قبول المعارضة ، وهو أنه هل يلزم المعترض بيان أن الوصف الذي أبديته منتف في الفرع أو لا ؟ فالذي قدمه ابن مفلح وتبعه في التحرير : أنه لا يلزمه ; لأن غرضه عدم استقلال ما ادعى المستدل أنه مستقل ، وهذا القدر يحصل بمجرد إبدائه ، وقيل : يلزمه ; لأنه قصد الفرق ، ولا يتم إلا به قال العضد : وقيل : إن تعرض لعدمه في الفرع صريحا لزمه بيانه وإلا فلا ، وهذا [ ص: 560 ] هو المختار .

أما إنه إذا لم يصرح [ به ] فليس عليه بيانه : فلأنه قد أتى بما لا يتم الدليل معه ، وهذا غرضه ، لا بيان عدم الحكم في الفرع ، حتى لو ثبت بدليل آخر لم يكن إلزاما له ، وربما سلمه ، وأما أنه إذا صرح به [ لزمه ] : فلأنه التزم أمرا وإن لم يجب عليه ابتداء ، فيلزمه بالتزامه ، ويجب عليه الوفاء بما التزمه ( ولا يحتاج وصفها ) أي المعارضة ( إلى أصل ) هذا بحث آخر يتفرع على قبول المعارضة ، وهو أنه : هل يحتاج المعارض إلى أصل يبين تأثير وصفه الذي أبداه في ذلك الأصل ، حتى يقبل منه ، بأن يقول : العلة الطعم دون القوت - كما في الملح - أم لا ؟ والذي عليه أصحابنا وجمهور العلماء : أنه لا يحتاج إلى ذلك ; لأن حاصل هذا الاعتراض أحد أمرين : إما نفي ثبوت الحكم في الفرع بعلة المستدل ، ويكفيه أنه لا يثبت عليتها بالاستقلال ، ولا يحتاج في ذلك إلى أن يثبت علية ما أبداه بالاستقلال . فإن كونه جزء العلة يحصل مقصوده فقد لا يكون علة فلا يؤثر في أصل أصلا .

وإما صد المستدل عن التعليل بذلك الوصف الذي ذكره المستدل لجواز أن تأثير هذا والاحتمال كاف ، فهو لا يدعي عليته ، حتى يحتاج شهادة أصل . وأيضا فإن أصل المستدل أصله ; لأنه كما يشهد لوصف المستدل بالاعتبار ; كذلك يشهد لوصف المعترض بالاعتبار ; لأن الوصفين موجودان فيه ، وكذلك الحكم موجود ، بأن يقول : العلة الطعم أو الكيل أو كلاهما . كما في البر بعينه ، فإذا مطالبته بأصل مطالبة له بما قد تحقق حصوله فلا فائدة فيه .

( وجوابها ) أي جواب المعارضة له وجوه . الأول : أن يكون ( بمنع وجود الوصف ) مثل أن يعارض القوت بالكيل . فيقول : لا نسلم أنه مكيل ; لأن العبرة بعادة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وكان حينئذ موزونا ( والثاني ) ما أشير إليه بقوله ( أو المطالبة ) أي مطالبة المستدل المعارض ( بتأثيره ) أي يكون وصف المعارض مؤثرا ومحله ( إن أثبت ) المستدل الوصف ( بمناسبة أو بشبه ) حتى يحتاج المعارض في معارضته إلى بيان مناسبة أو شبه ( لا ) إن أثبت المستدل الوصف ( بسبر ) فإن الوصف يدخل في السبر بدون ثبوت المناسبة بمجرد الاحتمال ( والثالث ) ما أشير إليه بقوله ( أو بخفائه ) أي خفاء وصف المعارضة ( والرابع ) ما أشير إليه بقوله ( أو ليس منضبطا ) أي كون وصف المعارضة ليس منضبطا ( والخامس ) ما أشير [ ص: 561 ] إليه بقوله ( أو منع ظهوره ) بأن يمنع المستدل ظهور وصف المعارضة ( والسادس ) ما أشير إليه بقوله ( أو انضباطه ) بأن يمنع المستدل انضباط وصف المعارضة . فإن وصف المعارض إذا كان خفيا أو ظاهرا غير منضبط ، أو منع المستدل ظهوره أو منع انضباطه لا يثبت علية وصف المعارض لوجوب ظهور الوصف وانضباطه .

( والسابع ) ما أشير إليه بقوله ( أو بيان ) أي أن يبين المستدل ( أنه ) أي أن وصف المعارض ( غير مانع ) عن ثبوت الحكم في الفرع . كما لو قال المستدل : يقتل القاتل المكره : قياسا على المختار ، والجامع بينهما القتل العمد العدوان ، فيعترض المعترض بالاختيار ، أي أن العلة في الأصل القتل العمد العدوان بالاختيار ، وهي غير موجودة في الفرع . فيجيب المستدل بأن وصف المعارض غير مانع عن ثبوت الحكم في الفرع ; لأن الاختيار عدم الإكراه المناسب لنقيض الحكم ، وعدم الإكراه طرد لا يصلح للعلية ، فالإكراه مناسب لنقيض الحكم وهو عدم الاقتصاص ، لكن عدم الإكراه طردي لا يصلح للعلية ; لأنه ليس من الباعث في شيء ( والثامن ) ما أشير إليه بقوله ( أو ملغى ، أو أن ما عداه مستقل ) بالعلية ( في صورة ما بظاهر نص ، أو إجماع ) يعني أن يبين المستدل كون الوصف الذي عارض به المعارض ملغى . فإذا بين ذلك المستدل : فقد تبين استقلال الباقي بالعلية في صورة ما بظاهر نص ، أو إجماع .

مثاله : إذا عارض في الربا الطعم بالكيل . فيجيب بأن النص دل على اعتبار الطعم في صورة ما ، وهو قوله { لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء } ومثال آخر : أن يقول في يهودي صار نصرانيا أو بالعكس : بدل دينه . فيقتل كالمرتد ، فيعارض بالكفر بعد الإيمان . فيجيب بأن التبديل معتبر في صورة ما ، كقوله { من بدل دينه فاقتلوه } وهذا إذا لم يتعرض للتعميم ، فلو عمم وقال : فثبت ربوية كل مطعوم أو اعتبار كل تبديل ; للحديث . لم يسمع ; لأن ذلك إثبات للحكم بالنص دون القياس ، ولا تعميم للقياس بالإلغاء ، والمقصود ذلك ، ولأنه لو ثبت العموم لكان القياس ضائعا .

ولا يضر كونه عاما إذا لم يتعرض للعموم ولم يستدل به ( ويكفي في استقلاله ) أي استقلال الوصف ( إثبات ) المستدل ( الحكم في صورة دونه ) [ ص: 562 ] أي : دون الوصف ; لأن الأصل عدم غيره ، ويدل عليه عجز المعارض عنه . ذكره الموفق في الروضة . وقيل : لا ; لجواز علة أخرى قطع به ابن الحاجب في مختصره والقادح السادس عشر ، هو المشار إليه بقوله ( ولو أبدى المعترض ) وصفا ( آخر يقوم مقام ) الوصف ( الملغى ) أي الذي ألغاه المستدل ( بثبوت الحكم دونه ) أي مع عدم وجود الوصف الملغى ( فسد الإلغاء . ويسمى ) هذا ( تعدد الوضع ، لتعدد أصليهما ) أي أصل المستدل وأصل المعترض .

( وجواب فساد الإلغاء : الإلغاء ، إلى أن يقف أحدهما ) قال العضد : وربما يظن أن إثبات الحكم في صورة دون وصف المعارض كاف في إلغائه . والحق أنه ليس بكاف ، لجواز وجود علة أخرى لما تقدم من جواز تعدد العلة ، وعدم وجوب العكس ، ولأجل ذلك لو أبدى المعترض في صورة عدم وصف المعارضة وصفا آخر يقوم مقام ما ألغاه المستدل بثبوت الحكم دونه فسد الإلغاء ; لابتنائه على استقلال الباقي في تلك الصورة . وقد بطل ، وتسمى هذه الحالة تعدد الوضع لتعدد أصليهما ، والتعليل في أحدهما بالباقي على وضع ، أي مع قيد ، وفي الآخر على وضع آخر ، أي مع قيد آخر .

مثاله : أن يقال في مسألة أمان العبد للحربي أمان من مسلم عاقل ، فيقبل كالحر ; لأن الإسلام والعقل مظنتان لإظهار مصلحة الإيمان أي بذل الأمان وجعله آمنا . فيقول المعترض : هو معارض بكونه حرا ، أي العلة كونه مسلما عاقلا حرا . فإن الحرية مظنة فراغ قلبه للنظر لعدم اشتغاله بخدمة السيد فيكون إظهار مصالح الإيمان معه أكمل . فيقول المستدل : الحرية ملغاة لاستقلال الإسلام والعقل به في صورة العبد المأذون له من قبل سيده في أن يقاتل . فيقول المعترض : إذن السيد له خلف عن الحرية .

فإنه مظنة لبذل الوسع فيما تصدى له من مصالح القتال ، أو لعلم السيد صلاحه لإظهار مصالح الإيمان .

وجواب تعدد الوضع : أن يلغي المستدل ذلك الخلف بإبداء صورة لا يوجد فيها الخلف . فإن أبدى المعترض خلفا آخر فجوابه إلغاؤه . وعلى هذا ، إلى أن يقف أحدهما . فتكون الدبرة عليه . فإن ظهر صورة لا خلف فيها تم الإلغاء ، وبطل الاعتراض ، وإلا ظهر عجز [ ص: 563 ] المستدل ( ولا يفيد الإلغاء لضعف المظنة ) المتضمنة لذلك المعنى ( بعد تسليمها ) . مثاله : أن يقول المستدل : الردة علة القتل . فيقول المعترض : بل مع الرجولية ; لأنه مظنة الإقدام على قتال المسلمين ، إذ يعتاد ذلك من الرجال دون النساء . فيجيب المستدل : بأن الرجولية وكونها مظنة الإقدام لا تعتبر ، وإلا لم يقتل مقطوع اليدين ; لأن احتمال الإقدام فيه ضعيف ، بل أضعف من احتماله في النساء ، وهذا لا يقبل منه ، حيث سلم أن الرجولية مظنة اعتبرها الشارع .

وذلك كترفه الملك في السفر لا يمنع رخص السفر في حقه لعلة المشقة ، إذ المعتبر المظنة وقد وجدت لا مقدار الحكمة لعدم انضباطها ( ولا يكفي المستدل رجحان وصفه ) قال ابن مفلح : لا يكفي المستدل رجحان وصفه خلافا للآمدي ; لقوة بعض أجزاء العلة ، كالقتل على العمد العدوان ( أما إن اتفقا على كون الحكم معللا بأحدهما ) أي أحد الوصفين ( قدم الراجح ولا يكفي كونه متعديا ) لاحتمال ترجيح القاصر .

قال العضد : هذان وجهان توهما جوابا للمعارضة ولا يكفيان . الأول : رجحان المعين وهو أن يقول المستدل في جواب المعارضة : ما عينته من الوصف راجح على ما عارضت به ، ثم يظهر وجها من وجوه الترجيح . وهذا القدر غير كاف ; لأنه إنما يدل على أن استقلال وصفه أولى من استقلال وصف المعارضة ; إذ لا يعلل بالمرجوح مع وجود الراجح ، لكن احتمال الجزئية باق ، ولا بعد في ترجيح بعض الأجزاء على بعض فيجيء التحكم . الثاني : كون ما عينه المستدل متعديا والآخر قاصرا غير كاف في جواب المعارضة ، إذ مرجعه الترجيح بذلك ، فيجيء التحكم . هذا والشأن في الترجيح فإنه إن رجحت المتعدية بأن اعتباره يوجب الاتساع في الأحكام ، وبأنها متفق على اعتبارها بخلاف القاصرة رجحت القاصرة بأنها موافقة للأصل . إذ الأصل عدم الأحكام ، وبأن اعتبارها إعمال للدليلين معا ، دليل البراءة الأصلية ودليل القاصرة ، بخلاف إلغائها .

( ويجوز تعدد أصول المستدل ) على الصحيح ; لأن الظن يقوى بالتعدد ، وكما أن أصل الظن مقصود ، فقوته أيضا مقصودة ( و ) على هذا يجوز ( اقتصار على ) أصل ( واحد [ ص: 564 ] في معارضة ، و ) في ( جواب ) من غير تعرض لبقية الأصول فيه ; لحصول المقصود بذلك ، وقيل : لا يجوز فيهما .

( فوائد ) تدل على معاني ألفاظ متداولة بين الجدليين . نبه عليها أبو محمد الجوزي في كتابه الإيضاح الأولى ( الفرض ) وهو ( أن يسأل عاما ، فيجيب خاصا أو يفتي عاما ويدل خاصا ) وقال في جمع الجوامع : الفرض : وهو تخصيص بعض صور النزاع بالحجاج ، وإقامة الدليل عليه ( و ) الثانية ( التقدير ) وهو ( إعطاء الموجود حكم المعدوم ، وعكسه ) وهو إعطاء المعدوم حكم الموجود ، وهو مقارن الفرض ، فإنه يقال : يقدر الفرض في كذا ، والفرض مقدر في كذا . مثال إعطاء الموجود حكم المعدوم : الماء للمريض الذي يخاف على نفسه باستعماله ، فيتيمم ويتركه مع وجوده حسا . ومثال إعطاء المعدوم حكم الموجود : المقتول تورث عنه الدية وإنما تجب بموته ولا تورث عنه ، إلا إذا دخلت في ملكه . فيقدر دخولها قبل موته ( و ) الثالثة ( محل النزاع ) وهو ( الحكم المفتى به في المسألة المختلف فيها ) وهو أيضا كالمقارن للفرض والتقدير . فمحل النزاع : هو المتكلم فيه من الجانبين بين الخصمين . ( و ) الرابعة ( الإلغاء ) وهو ( إثبات الحكم بدون الوصف المعارض به ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية