الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          كتاب الوصايا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب ما جاء في الوصية بالثلث

                                                                                                          2116 حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال مرضت عام الفتح مرضا أشفيت منه على الموت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فقلت يا رسول الله إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنتي أفأوصي بمالي كله قال لا قلت فثلثي مالي قال لا قلت فالشطر قال لا قلت فالثلث قال الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت فيها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك قال قلت يا رسول الله أخلف عن هجرتي قال إنك لن تخلف بعدي فتعمل عملا تريد به وجه الله إلا ازددت به رفعة ودرجة ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد ابن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة قال أبو عيسى وفي الباب عن ابن عباس وهذا حديث حسن صحيح وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن سعد بن أبي وقاص والعمل على هذا عند أهل العلم أنه ليس للرجل أن يوصي بأكثر من الثلث وقد استحب بعض أهل العلم أن ينقص من الثلث لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلث كثير [ ص: 251 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 251 ] ( أبواب الوصايا ) قال في الفتح : الوصايا جمع وصية كالهدايا ، وتطلق على فعل الموصي وعلى ما يوصي به من مال أو غيره من عهد ونحوه فتكون بمعنى المصدر وهو الإيصاء وتكون بمعنى المفعول وهو الاسم ، وفي الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت وقد يصحبه التبرع قال الأزهري : الوصية من وصيت الشيء بالتخفيف أصيه إذا وصلته ، سميت وصية لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بعد مماته ، ويقال وصية بالتشديد ووصاة بالتخفيف بغير همز ، وتطلق شرعا أيضا على ما يقع به الزجر عن المنهيات والحث على المأمورات انتهى .

                                                                                                          قوله : ( مرضت عام الفتح ) صوابه عام حجة الوداع ، قال الحافظ في فتح الباري : اتفق أصحاب الزهري على أن ذلك كان في حجة الوداع إلا ابن عيينة فقال في فتح مكة : أخرجه الترمذي وغيره من طريقه ، واتفق الحافظ على أنه وهم فيه ، قال ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ذلك وقع له مرتين مرة عام الفتح ومرة عام حجة الوداع ، ففي الأولى لم يكن له وارث من الأولاد أصلا ، وفي الثانية كانت له ابنة فقط ، انتهى ( أشفيت منه ) أي أشرفت ، يقال أشفى على كذا أي قاربه وصار على شفاه ، ولا يكاد يستعمل إلا في الشر ( يعودني ) حال ( وليس يرثني ) أي من أصحاب الفروض ( إلا ابنتي ) لأنه كان له عصبة كثير ذكره المظهر .

                                                                                                          [ ص: 252 ] قال الطيبي : ويؤيد هذا التأويل قوله ورثتك ، ولعل تخصيص البنت بالذكر لعجزها ، والمعنى ليس يرثني ممن أخاف عليه إلا ابنتي ( فأوصي ) بالتخفيف والتشديد ( بمالي كله ) أي بتصدقه للفقراء ( فالشطر ) بالجر أي فبالنصف ، قال ابن الملك : يجوز نصبه عطفا على الجار والمجرور ورفعه أي فالشطر كاف ، وجره عطفا على مجرور الباء ( قلت فالثلث ) بالجر وجوز النصب والرفع على ما سبق ( قال الثلث ) بالنصب .

                                                                                                          قال النووي رحمه الله : يجوز نصب الثلث الأول ورفعه بالنصب على الإغراء أو على تقدير : أعط الثلث ، وأما الرفع فعلى أنه فاعل أي يكفيك الثلث ، أو أنه مبتدأ محذوف الخبر أو عكسه ( والثلث ) بالرفع لا غير على الابتداء خبره ( كثير ) قال السيوطي : روي بالمثلثة والموحدة وكلاهما صحيح ، قال ابن الملك : فيه بيان أن الإيصاء بالثلث جائز له وأن النقص منه أولى ( إنك ) استئناف تعليل ( أن تذر ) بفتح الهمزة والراء وبكسر الهمزة وسكون الراء أي تترك ( ورثتك أغنياء ) أي مستغنين عن الناس ( عالة ) أي فقراء ( يتكففون الناس ) أي يسألونهم بالأكف ومدها إليهم ، وفيه إشارة إلى أن ورثته كانوا فقراء وهم أولى بالخير من غيرهم .

                                                                                                          قال النووي رحمه الله : أن تذر بفتح الهمزة وكسرها روايتان صحيحتان ، وفي الفائق ، إن تذر مرفوع المحل على الابتداء أي تركك أولادك أغنياء خير والجملة بأسرها خبر إنك ( لن تنفق نفقة ) مفعول به أو مطلق ( إلا أجرت فيها ) بصيغة المجهول أي صرت مأجورا بسبب تلك النفقة ( حتى اللقمة ) بالنصب وبالجر وحكي بالرفع ( ترفعها إلى في امرأتك ) وفي رواية : حتى ما تجعل في في امرأتك ، أي في فمها ، والمعنى أن المنفق لابتغاء رضائه تعالى يؤجر وإن كان محل الإنفاق محل الشهوة وحظ النفس لأن الأعمال بالنيات ونية المؤمن خير من عمله كذا في المرقاة .

                                                                                                          ( أخلف عن هجرتي ) أي أبقى بسبب المرض خلفا بمكة قاله تحسرا وكانوا يكرهون المقام بمكة بعدما هاجروا منها وتركوها لله ( إنك لن تخلف بعدي فتعمل عملا إلخ ) يعني أن كونك مخلفا لا يضرك مع العمل الصالح ( لعلك إن تخلف ) أي بأن يطول عمرك ( حتى ينتفع بك أقوام ) أي من المسلمين بالغنائم [ ص: 253 ] مما سيفتح الله على يديك من بلاد الشرك ( ويضر ) مبني للمفعول ( بك آخرون ) من المشركين الذين يهلكون على يديك وقد وقع ذلك الذي ترجى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشفي سعد من ذلك المرض وطال عمره حتى انتفع به أقوام من المسلمين واستضر به آخرون من الكفار حتى مات سنة خمسين على المشهور ، وقيل غير ذلك ، قال النووي : هذا الحديث من المعجزات فإن سعدا رضي الله عنه عاش حتى فتح العراق وغيره وانتفع به أقوام في دينهم ودنياهم وتضرر به الكفار في دينهم ودنياهم ، فإنهم قتلوا رجالهم وسبيت نساؤهم وأولادهم وغنمت أموالهم وديارهم ، وولي العراق فاهتدى على يديه خلائق ، وتضرر به خلائق بإقامته الحق فيهم من الكفار ونحوهم ، انتهى .

                                                                                                          ( اللهم امض لأصحابي هجرتهم ) أي تممها لهم ولا تنقصها ( لكن البائس سعد بن خولة ) البائس من أصابه بؤس أي ضرر وهو يصلح للذم والترحم قيل إنه لم يهاجر من مكة حتى مات بها فهو ذم ، والأكثر أنه هاجر ومات بها في حجة الوداع فهو ترحم ( يرثي له ) ، من رثيت الميت مرثية إذا عددت محاسنه ورثأت بالهمز لغة فيه فإن قيل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي كما رواه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم ، فإذا نهى عنه كيف يفعله ؟ فالجواب أن المرثية المنهي عنها ما فيه مدح الميت وذكر محاسنه الباعث على تهييج الحزن وتجديد اللوعة أو فعلها مع الاجتماع لها أو على الإكثار منها دون ما عدا ذلك ، والمراد هنا توجعه عليه السلام وتحزنه على سعد لكونه مات بمكة بعد الهجرة منها لا مدح الميت لتهييج الحزن كذا ذكره القسطلاني ( أن مات بمكة ) بفتح الهمزة أي لأجل موته بأرض هاجر منها وكان يكره موته بها فلم يعط ما تمنى ، قال ابن بطال : وأما قوله : يرثي له ، فهو من كلام الزهري تفسير لقوله صلى الله عليه وسلم : لكن البائس إلخ أي رثي له حين مات بمكة وكان يهوى أن يموت بغيرها ، قوله : ( وفي الباب عن ابن عباس ) أخرجه الشيخان .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) أخرجه الجماعة .

                                                                                                          قوله : ( والعمل على هذا عند أهل العلم أنه ليس للرجل أن يوصي بأكثر من الثلث ) قال [ ص: 254 ] الحافظ في الفتح : استقر الإجماع على منع الوصية بأزيد من الثلث ، لكن اختلف فيمن ليس له وارث خاص ، فذهب الجمهور إلى منعه من الزيادة على الثلث ، وجوز له الزيادة الحنفية وإسحاق وشريك وأحمد في رواية ، وهو قول علي وابن مسعود ، واحتجوا بأن الوصية مطلقة في الآية فقيدتها السنة لمن له وارث فبقي من لا وارث له على الإطلاق ( وقد استحب بعض أهل العلم أن ينقص من الثلث إلخ ) قال الشوكاني في النيل : المعروف من مذهب الشافعي استحباب النقص عن الثلث ، وفي شرح مسلم للنووي : إن كان الورثة فقراء استحب أن ينقص منه وإن كانوا أغنياء استحب أن يوصي بالثلث تبرعا .




                                                                                                          الخدمات العلمية