الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مطلب : فيما يقوله الآكل والشارب آخر طعامه من الحمد والثناء على الله عز وجل .

( ثم ) بعد فراغك من الأكل والشرب ( في الانتهاء ) من كل منهما ( احمد ) الله تعالى فعل أمر من حمد يحمد يعني اثن على الله واشكره بما هو أهله الذي أسدى لك هذه النعم وسوغ الطعام والشراب حتى حصل لك بهما الغذاء فهو جل شأنه جدير بأن يحمد لذاته فكيف يترك الحمد له والثناء عليه مع نعمه المترادفة ومننه المتواصلة .

وقد ورد عن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك عدة أحاديث : منها ما رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه عن معاذ بن أنس رضي الله عنه [ ص: 104 ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من أكل طعاما ، ثم قال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه } .

وأخرج مسلم والنسائي والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها } الأكلة بفتح الهمزة المرة الواحدة من الأكل وقيل بضم الهمزة ، وهي اللقمة .

وفي حديث ابن عباس الطويل الذي رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم { : خبز ولحم وتمر ورطب وبسر ودمعت عيناه والذي نفسي بيده إن هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة فكبر ذلك على أصحابه فقال : بل إذا أصبتم مثل هذا فضربتم بأيديكم فقولوا بسم الله ، فإذا شبعتم فقولوا الحمد لله الذي هو أشبعنا وأنعم علينا فأفضل ، فإن هذا كفاف بهذا } .

{ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل ، أو شرب قال : الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين } رواه الإمام أحمد وغيره .

وفي البخاري عن أبي أمامة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال : الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه } وفي رواية { : كان إذا فرغ من طعامه ، وقال مرة إذا رفع مائدته قال : الحمد لله الذي كفانا وآوانا غير مكفي ولا مكفور ربنا } ومكفي بفتح الميم وتشديد الياء هذه الرواية الصحيحة الفصيحة ورواه أكثر الرواة بالهمز .

قال النووي : وهو فاسد من جهة العربية سواء كان من الكفاية أو من كفاف الإناء كما لا يقال في مقرو مقرئ ولا في مرمي مرمئ بالهمز . قال في مطالع الأنوار : المراد بهذا المذكور كله الطعام ، وإليه يعود الضمير . قال الحربي : فالمكفي الإناء المقلوب للاستغناء عنه كما قال غير مستغنى عنه ، أو لعدمه .

وقوله غير مكفور أي غير مجحودة نعم الله تعالى فيه ، بل مشكورة غير مستور الاعتراف بها ، والحمد لله عليها ، وقال الخطابي : المراد بهذا الدعاء كله الباري سبحانه وتعالى ، وأن الضمير يعود إليه ، وأن معنى قوله [ ص: 105 ] غير مكفي أنه يطعم ولا يطعم كأنه على هذا من الكفاية ، وإلى هذا ذهب غيره في تفسير هذا الحديث أي أن الله تعالى مستغن من معين وظهير .

قال : وقوله ولا مودع أي غير متروك الطلب منه والرغبة إليه ، وهو بمعنى المستغنى عنه وينتصب " ربنا " على هذا بالاختصاص ، والمدح ، أو بالنداء كأنه قال يا ربنا اسمع حمدنا ودعاءنا ، ومن رفعه قطعه وجعله خبرا لمبتدأ محذوف أي ذلك هو ربنا ، أو أنت ربنا ، ويصح كسره على البدل من اسم الجلالة في قوله : الحمد لله .

وذكر ابن الأثير في نهايته نحو هذا الخلاف مختصرا قال : ومن رفع " ربنا فعلى الابتداء المؤخر أي ربنا غير مكفي ولا مودع وعلى هذا يرفع " غير " قال : ويجوز أن يكون الكلام راجعا إلى الحمد كأنه حمد كثير غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عن هذا الحمد ، وقال في قوله : ولا مودع أي غير متروك الطاعة وقيل : هو من الوداع وإليه يرجع والله أعلم .

وأخرج أبو داود والنسائي بإسناد صحيح عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه قال { : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل ، أو شرب قال : الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا } .

وفي سنن النسائي وكتاب ابن السني بإسناد حسن عن عبد الرحمن بن جبير التابعي أنه حدثه { رجل خدم النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنين أنه كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرب إليه طعاما يقول : بسم الله فإذا فرغ من طعامه قال : اللهم أطعمت وسقيت وأغنيت وأقنيت وهديت واجتبيت فلك الحمد على ما أعطيت }

. وفي كتاب ابن السني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه كان يقول في الطعام إذا فرغ : الحمد لله الذي من علينا وهدانا والذي أشبعنا وأروانا وكل الإحسان آتانا } ، وفي سنن أبي داود والترمذي وكتاب ابن السني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : إذا أكل أحدكم طعاما } .

وفي رواية ابن السني { من أطعمه الله طعاما فليقل : اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ، ومن سقاه الله تعالى لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ، فإنه ليس شيء يجزئ من الطعام والشراب غير اللبن } قال الترمذي : هذا حديث حسن والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية