الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 270 ] يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون .

استئناف ابتدائي للانتقال من دعائهم لكلمة الحق الجامعة لحق الدين ، إلى الإنكار عليهم محاجتهم الباطلة للمسلمين في دين إبراهيم ، وزعم كل فريق منهم أنهم على دينه توصلا إلى أن الذي خالف دينهم لا يكون على دين إبراهيم كما يدعي النبيء محمد - صلى الله عليه وسلم - فالمحاجة فرع عن المخالفة في الدعوى . وهذه المحاجة عن طريق قياس المساواة في النفي ، أو محاجتهم النبيء في دعواه أنه على دين إبراهيم - محاجة يقصدون منها إبطال مساواة دينه لدين إبراهيم ، بطريقة قياس المساواة في النفي أيضا .

فيجوز أن تكون هذه الجملة من مقول القول المأمور به الرسول في قوله تعالى : قل يا أهل الكتاب تعالوا أي قل لهم : يا أهل الكتاب لم تحاجون . ويجوز أن يكون الاستئناف من كلام الله تعالى عقب أمره الرسول بأن يقول تعالوا ، فيكون توجيه خطاب إلى أهل الكتاب مباشرة ، ويكون جعل الجملة الأولى من مقول الرسول دون هذه ؛ لأن الأولى من شئون الدعوة ، وهذه من طرق المحاجة ، وإبطال قولهم ، وذلك في الدرجة الثانية من الدعوة . والكل في النسبة إلى الله سواء .

ومناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى هذا الكلام نشأت من قوله : فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون لأنه قد شاع فيما نزل من القرآن في مكة وبعدها أن الإسلام الذي جاء به محمد - عليه السلام - يرجع إلى الحنيفية دين إبراهيم كما تقدم تقريره في سورة البقرة ، وكما في سورة النحل ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وسيجيء أن إبراهيم كان حنيفا مسلما ، وقد اشتهر هذا وأعلن بين المشركين في مكة ، وبين اليهود في المدينة ، وبين النصارى في وفد نجران ، وقد علم أن المشركين بمكة كانوا يدعون أنهم ورثة شريعة إبراهيم وسدنة بيته ، وكان أهل الكتاب قد ادعوا أنهم [ ص: 271 ] على دين إبراهيم ، ولم يتبين لي أكان ذلك منهم ادعاء قديما أم كانوا قد تفطنوا إليه من دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فاستيقظوا لتقليده في ذلك ، أم كانوا قالوا ذلك على وجه الإفحام للرسول حين حاجهم بأن دينه الحق ، وأن الدين عند الله الإسلام فألجأوه إلى أحد أمرين : إما أن تكون الزيادة على دين إبراهيم غير مخرجة عن اتباعه ، فهو مشترك الإلزام في دين اليهودية والنصرانية ، وإما أن تكون مخرجة عن دينإبراهيم فلا يكون الإسلام تابعا لدين إبراهيم .

وأحسب أن ادعاءهم أنهم على ملة إبراهيم إنما انتحلوه لبث كل من الفريقين الدعوة إلى دينه بين العرب ، ولاسيما النصرانية ; فإن دعاتها كانوا يحاولون انتشارها بين العرب فلا يجدون شيئا يروج عندهم سوى أن يقولوا : إنها ملة إبراهيم ، ومن أجل ذلك اتبعت في بعض قبائل العرب ، وهنالك أخبار في أسباب النزول تثير هذه الاحتمالات : فروي أن وفد نجران قالوا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - حين دعاهم إلى اتباع دينه : على أي دين أنت ؟ قال : على ملة إبراهيم قالوا : فقد زدت فيه ما لم يكن فيه فعلى هذه الرواية يكون المخاطب بأهل الكتاب هنا خصوص النصارى كالخطاب الذي قبله . وروي : أنه تنازعت اليهود ونصارى نجران بالمدينة ، عند النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، فادعى كل فريق أنه على دين إبراهيم دون الآخر ، فيكون الخطاب لأهل الكتاب كلهم ، من يهود ونصارى .

ولعل اختلاف المخاطبين هو الداعي لتكرير الخطاب .

وقوله : وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده يكون على حسب الرواية الأولى منعا لقولهم : فقد زدت فيه ما ليس منه ، المقصود منه إبطال أن يكون الإسلام هو دين إبراهيم . وتفصيل هذا المنع : إنكم لا قبل لكم بمعرفة دين إبراهيم ، فمن أين لكم أن الإسلام زاد فيما جاء به على دين إبراهيم ، فإنكم لا مستند لكم في عملكم بأمور الدين إلا التوراة والإنجيل ، وهما قد نزلا من بعد إبراهيم ، فمن أين يعلم ما كانت شريعة إبراهيم حتى يعلم المزيد عليها ، وذكر التوراة على هذا لأنها أصل الإنجيل . ويكون على حسب الرواية الثانية نفيا لدعوى كل فريق منهما أنه على دين إبراهيم ; بأن دين اليهود هو التوراة ، ودين النصارى هو الإنجيل ، وكلاهما نزل [ ص: 272 ] بعد إبراهيم ، فكيف يكون شريعة له . قال الفخر : يعني ولم يصرح في أحد هذين الكتابين بأنه مطابق لشريعة إبراهيم ، فذكر التوراة والإنجيل على هذا نشر بعد اللف : لأن أهل الكتاب شمل الفريقين ، فذكر التوراة لإبطال قول اليهود ، وذكر الإنجيل لإبطال قول النصارى ، وذكر التوراة والإنجيل هنا لقصد جمع الفريقين في التخطئة ، وإن كان المقصود بادئ ذي بدء هم النصارى الذين مساق الكلام معهم .

والأظهر عندي في تأليف المحاجة ينتظم من مجموع قوله : وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده وقوله : فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وقوله : والله يعلم وأنتم لا تعلمون فيبطل بذلك دعواهم أنهم على دين إبراهيم ، ودعواهم أن الإسلام ليس على دين إبراهيم ، ويثبت عليهم أن الإسلام على دين إبراهيم : وذلك أن قوله وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده يدل على أن علمهم في الدين منحصر فيهما ، وهما نزلا بعد إبراهيم فلا جائز أن يكونا عين صحف إبراهيم .

وقوله فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم يبطل قولهم : إن الإسلام زاد على دين إبراهيم ، ولا يدل على أنهم على دين إبراهيم ; لأن التوراة والإنجيل لم يرد فيهما التصريح بذلك ، وهذا هو الفارق بين انتساب الإسلام إلى إبراهيم وانتساب اليهودية والنصرانية إليه ، فلا يقولون وكيف يدعى أن الإسلام دين إبراهيم مع أن القرآن أنزل من بعد إبراهيم كما أنزلت التوراة والإنجيل من بعده .

وقوله والله يعلم يدل على أن الله أنبأ في القرآن بأنه أرسل محمدا بالإسلام دين إبراهيم وهو أعلم منكم بذلك ، ولم يسبق أن امتن عليكم بمثل ذلك في التوراة والإنجيل فأنتم لا تعلمون ذلك ، فلما جاء الإسلام وأنبأ بذلك أردتم أن تنتحلوا هذه المزية ، واستيقظتم لذلك حسدا على هذه النعمة ، فنهضت الحجة عليهم ، ولم يبق لهم معذرة في أن يقولوا : إن مجيء التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم مشترك الإلزام لنا ولكم ; فإن القرآن أنزل بعد إبراهيم ، ولولا انتظام الدليل على الوجه الذي ذكرنا لكان مشترك الإلزام .

والاستفهام في قوله فلم تحاجون مقصود منه التنبيه على الغلط .

[ ص: 273 ] وقد أعرض في هذا الاحتجاج عليهم عن إبطال المنافاة بين الزيادة الواقعة في الدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - على الدين الذي جاء به إبراهيم ، وبين وصف الإسلام بأنه ملة إبراهيم : لأنهم لم يكن لهم من صحة النظر ما يفرقون به بين زيادة الفروع ، واتحاد الأصول ، وأن مساواة الدينين منظور فيها إلى اتحاد أصولهما سنبينها عند تفسير قوله تعالى : فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله وعند قوله : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا فاكتفي في المحاجة بإبطال مستندهم في قولهم : فقد زدت فيه ما ليس فيه ، على طريقة المنع ، ثم بقوله : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما على طريقة الدعوى بناء على أن انقطاع المعترض كاف في اتجاه دعوى المستدل .

وقوله : هأنتم هؤلاء حاججتم تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى : ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم في سورة البقرة .

وقرأ الجمهور : هاأنتم بإثبات ألف ها وبتخفيف همزة أنتم ، وقرأه قالون ، وأبو عمرو ، ويعقوب بإثبات الألف وتسهيل همزة " أنتم " وقرأه ورش بحذف ألف " ها " وبتسهيل همزة " أنتم " وبإبدالها ألفا أيضا مع المد ، وقرأه قنبل بتخفيف الهمزة دون ألف .

ووقعت " ما " الاستفهامية بعد لام التعليل فيكون المسئول عنه هو سبب المحاجة فما صدق " ما " علة من العلل مجهولة ، أي سبب المحاجة مجهول ; لأنه ليس من شأنه أن يعلم لأنه لا وجود له ، فلا يعلم ، فالاستفهام عنه كناية عن عدمه ، وهذا قريب من معنى الاستفهام الإنكاري ، وليس عينه .

وحذفت ألف " ما " الاستفهامية على ما هو الاستعمال فيها إذا وقعت مجرورة بحرف نحو عم يتساءلون وقول ابن معد يكرب :


علام تقول الرمح يثقل عاتقي

والألفات التي تكتب في حروف الجر على صورة الياء . إذا جر بواحد من تلك الحروف ( ما ) هذه يكتبون الألفات على صورة الألف : لأن " ما " صارت على حرف واحد فأشبهت جزء الكلمة فصارت الألفات كالتي في أواسط الكلمات .

[ ص: 274 ] وقوله : في إبراهيم معناه في شيء من أحواله ، وظاهر أن المراد بذلك هنا دينه ، فهذا من تعليق الحكم بالذات ، والمراد حال من أحوال الذات يتعين من المقام كما تقدم في تفسير قوله تعالى : إنما حرم عليكم الميتة في سورة البقرة .

و ( ها ) من قوله هأنتم تنبيه ، وأصل الكلام أنتم حاججتم ، وإنما يجيء مثل هذا التركيب في محل التعجب والتنكير والتنبيه ونحو ذلك ، ولذلك يؤكد غالبا باسم إشارة بعده ، فيقال هأنذا ، و هأنتم أولاء أو هؤلاء .

وحاججتم خبر ( أنتم ) ولك أن تجعل جملة حاججتم حالا هي محل التعجيب باعتبار ما عطف عليها من قوله : فلم تحاجون : لأن الاستفهام فيه إنكاري ، فمعناه : فلا تحاجون .

وسيأتي بيان مثله في قوله تعالى : هأنتم أولاء تحبونهم .

وقوله : والله يعلم وأنتم لا تعلمون تكميل للحجة أي أن القرآن الذي هو من عند الله أثبت أنه ملة إبراهيم ، وأنتم لم تهتدوا لذلك لأنكم لا تعلمون ، وهذا كقوله في سورة البقرة : أم يقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية