الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولو نوى نية صحيحة ثم غير النية في بعض الأعضاء بأن نوى بغسل الرجل التبرد أو التنظيف ، ولم يحضر نية الوضوء - لم يصح ما غسله بنية التبرد والتنظيف ، وإن حضرته نية الوضوء وأضاف إليها نية التبرد فعلى ما ذكرت من الخلاف ) .

                                      [ ص: 377 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا نوى نية صحيحة ثم نوى بغسل الرجل مثلا التبرد فله حالان كما ذكر المصنف : ( أحدهما ) أن لا تحضره نية الوضوء في حال غسل الرجل ، بل ينوي التبرد غافلا عما سواه ففيه وجهان الصحيح منهما وبه قطع العراقيون لا يصح غسل الرجلين .

                                      ( والثاني ) حكاه الخراسانيون وضعفوه أنه يصح لبقاء حكم النية الأولى ، فإذا قلنا بالصحيح فقال الجمهور : إن لم يطل الفصل ونوى رفع الحدث ثم غسل ما غسله بنية التبرد وإن طال ، فهل يبني أم يستأنف الوضوء ؟ فيه القولان في جواز تفريق الوضوء ، الصحيح جوازه فيبني ، هذه طريقة الجمهور ، وقال القاضي حسين والبغوي والرافعي : إذا لم يطل الفصل هل يكفيه البناء أم يجب الاستئناف ؟ فيه وجهان بناء على الوجهين في جواز تفريق النية على أعضاء الوضوء ، وسنذكرهما في مسائل الفرع إن شاء الله تعالى ، إن قلنا : يجوز تفريقها وهو الأصح جاز البناء وإلا فلا . وصرح صاحب الحاوي بجواز البناء مع قولنا : لا يجوز تفريق النية . [ ص: 371 ] الحال الثاني ) أن يحضره نية الوضوء مع نية التبرد فهو كما لو نوى من أول الطهارة الوضوء والتبرد وفيه الوجهان : المنصوص في البويطي صحة الوضوء .

                                      ( والثاني ) : لا يصح ما غسله بنية التبرد فيكون حكمه ما ذكرناه في الحال الأول والله أعلم .

                                      ( فرع ) لهذه المسألة : لو غسل المتوضئ أعضاءه إلا رجليه فسقط في نهر فانغسلتا فإن كان ذاكرا للنية صح وضوءه ، وإلا فالمذهب أنه لا يجزيه غسل الرجلين ، وفيه وجه أنه يجزيه ، هكذا ذكر المسألة البغوي والمتولي وقال القاضي حسين : الأصح صحة وضوئه إذا لم تكن له نية ، والمختار ما قاله المتولي والبغوي . والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مسائل تتعلق بالباب : ( إحداها ) : إذا نوى المحدث الوضوء فقط ففي ارتفاع حدثه وجهان حكاهما الماوردي والروياني أصحهما ارتفاعه .

                                      ( والثاني ) : لا ; لأن الوضوء قد يكون تجديدا فلا يرفع حدثا ، قال الروياني : فلو نوى الجنب الغسل لم يجزئه ; لأنه قد يكون عادة وقد يكون مندوبا ، قال إمام الحرمين : الذي قطع به أئمة المذهب أنه إذا نوى بوضوئه أداء الوضوء أو فرض الوضوء صح وارتفع حدثه ، وقطع أيضاالمتولي بأنه إذا نوى فرض الوضوء أو الجنب أو الحائض فرض الغسل أجزأهم . فإن قيل : كيف يصح الوضوء بنية الفرضية قبل دخول وقت الصلاة ؟ . فالجواب أن الوضوء يجب بمجرد الحدث إلا أنه لا يتضيق وقته قبل إرادة الصلاة . وهذا على أحد الأوجه في موجب الوضوء .

                                      ( والثاني ) : أنه القيام إلى الصلاة .

                                      ( والثالث ) : كلاهما . وجواب آخر أجاب به الرافعي وهو : أن المراد بالفرضية هنا فعل طهارة الحدث المشروطة في صحة الصلاة ، وشرط الشيء يسمى فرضا من حيث إنه لا يصح إلا به ، ولو كان المراد حقيقة الفرضية لما صح وضوء الصبي بهذه النية وهو صحيح بها .



                                      ( المسألة الثانية ) : إذا فرق النية على أعضاء الوضوء فنوى عند غسل [ ص: 372 ] الوجه رفع الحدث عن الوجه ، وعند غسل اليدين رفع الحدث عنهما ، وكذا عند الرأس والرجلين ففي صحة وضوئه وجهان مشهوران في كتب الخراسانيين ، وذكرهما من العراقيين الماوردي وابن الصباغ وغيرهما : أصحهما عند الأصحاب الصحة وبه قطع الشيخ أبو حامد ونقله الرافعي عن معظم الأصحاب ; لأنه يجوز تفريق أفعال الوضوء على الصحيح فكذا النية ، بخلاف الصلاة وغيرها مما لا يجوز فيه تفريق النية . وخالف الغزالي الأصحاب فقال : الأصح أنه لا يصح . ثم جمهور الأصحاب أطلقوا المسألة في تفريق النية . وقال الرافعي المشهور أن الخلاف في مطلق التفريق ، قال : وحكي عن بعض الأصحاب أن الخلاف فيما إذا نوى رفع الحدث عن العضو المغسول دون غيره ، قال الرافعي : ثم من الأصحاب من بنى تفريق نية الوضوء على تفريق أفعاله فقال : إن جوزنا تفريق الأفعال فكذا النية وإلا فلا ، ومنهم من رتبه عليه فقال : إن منعنا تفريق الأفعال فالنية أولى وإلا فوجهان . والفرق أن الوضوء وإن فرق أفعاله عبادة واحدة يرتبط بعضها ببعض ، ولهذا لو أراد مس المصحف بوجهه المغسول قبل غسل باقي الأعضاء لا يجوز فلتشملها نية واحدة ، بخلاف الأفعال فإنها لا تتأتى إلا متفرقة . والله أعلم .



                                      ( المسألة الثالثة ) : أهلية النية شرط لصحة الطهارة فلا يصح وضوء مجنون وصبي لا يميز ، وأما الصبي المميز فيصح وضوءه وغسله كما سنوضحه إن شاء الله تعالى في المسألة السادسة . . وأما الكافر الأصلي إذا تطهر ثم أسلم ففيه أربعة أوجه : الصحيح المنصوص لا يصح منه وضوء ولا غسل لأنه ليس من أهل النية .

                                      ( والثاني ) : يصح غسله دون تيممه ووضوئه ، حكاه المصنف في باب الغسل وحكاه آخرون . وقال إمام الحرمين : هذا الوجه هو قول أبي بكر الفارسي ، قال : وهو غلط صريح متروك عليه ، قال : وليس من الرأي أن تحسب غلطات لرجال من متن المذهب .

                                      ( والوجه الثالث ) : يصح منه الغسل والوضوء دون التيمم ، حكاه صاحب الحاوي وغيره .

                                      ( والرابع ) : يصح من كل كافر كل طهارة من غسل ووضوء وتيمم ، حكاه إمام الحرمين وغيره وهو ضعيف جدا [ ص: 373 ] وأما المرتد فقال الرافعي : قطع الأصحاب بأنه لا يصح منه غسل ولا غيره . ولو انقطع حيض مرتدة فاغتسلت ثم أسلمت لم يحل الوطء إلا بغسل جديد بلا خلاف كذا قالوه . وهذا الذي ادعاه الرافعي من الاتفاق ليس متفقا عليه بل ذكر جماعة الخلاف في المرتد ، فقال صاحب الحاوي في هذا الباب في صحة غسل المرتد وجهان . وقال إمام الحرمين في باب الغسل : حكى المحاملي في كتاب القولين والوجهين وجها أنه يصح من كل كافر كل طهارة غسلا كان أو وضوءا أو تيمما ، قال : وهذا في نهاية الضعف . فقوله : كل كافر يدخل فيه المرتد ، هذا تفصيل مذهبنا . وقال أبو حنيفة : إذا توضأ الكافر صح وضوءه فيصلي به إذا أسلم ، ووافقنا مالك وأحمد وداود والجمهور على أنه لا يصح وضوءه والله أعلم . وأما الكتابية تحت المسلم فإذا انقطع حيضها أو نفاسها لم يحل له الوطء حتى تغتسل ، فإذا اغتسلت حل الوطء للضرورة ، وهذا لا خلاف فيه فإذا أسلمت هل يلزمها إعادة ذلك الغسل ؟ فيه وجهان أصحهما عند الجمهور وجوبها ، ممن صححه الفوراني والمتولي وصاحب العدة والروياني والرافعي وغيرهم . وصحح إمام الحرمين عدم الوجوب قال : لأن الشافعي رحمه الله نص أن الكافر إذا لزمه كفارة فأداها ثم أسلم لا يلزمه الإعادة ، قال : ولعل الفرق بينهما أن الكفارة يتعلق مصرفها بالآدمي فتشبه الديون بخلاف الغسل . قال المتولي : ولا يحل للزوج الوطء إلا إذا اغتسلت بنية استباحة الاستمتاع ، كما لو ظاهر كافر وأراد الإعتاق لا يجزيه إلا بنية العتق عن الكفارة ، فإذا لم ينو لم يحل له الاستمتاع ، وحكى الروياني وجهين : ( أحدهما ) : هذا .

                                      ( والثاني ) : يحل الوطء بغسلها بلا نية للضرورة قال : وهذا أقيس ، وإذا اغتسلت ثم أسلمت هل لزوجها الوطء بهذا الغسل ؟ قال المتولي : هو على الوجهين في وجوب إعادة الغسل ، إن أوجبناه لم يحل الوطء حتى تغتسل وإلا فيحل ، وذكر الروياني طريقين ( أحدهما ) هذا .

                                      ( والثاني ) القطع بعدم الحل . قال : وهو الأصح لزوال الضرورة . ولو امتنعت زوجته المسلمة من غسل الحيض فأوصل الماء إلى بدنها قهرا حل له وطؤها . قطع به إمام الحرمين وغيره ، قال إمام الحرمين . وهل يلزمها إعادة [ ص: 374 ] هذا الغسل لحق الله تعالى ؟ فيه الوجهان كما في الذمية قال : ويحتمل القطع بالوجوب لأنها تركت النية وهي من أهلها ، وجزم الغزالي بوجوب الإعادة ولم يصرح الإمام باشتراط نية الزوج - بغسله إياها - الاستباحة ، والظاهر أنه على الوجهين الآتيين في غسله المجنونة . وأما المجنونة إذا انقطع حيضها فلا يحل لزوجها وطؤها حتى يغسلها ، فإذا غسلها حل الوطء لتعذر النية في حقها ، وإذا غسلها الزوج هل يشترط لحل الوطء أن ينوي بغسله استباحة الوطء ؟ فيه وجهان حكاهما الروياني ، وقطع المتولي باشتراط النية ، وقطع الماوردي بعدم الاشتراط ، قال : بخلاف غسل الميت فإنه يشترط فيه نية الغسل على أحد الوجهين ; لأن غسله تعبد ، وغسل المجنونة لحق الزوج ، فإذا أفاقت لزمها إعادة الغسل على المذهب الصحيح المشهور ، وذكر المتولي فيه وجهين كالذمية إذا أسلمت قال : وكذا الوجهان في حل وطئها للزوج بعد الإفاقة والله أعلم .



                                      ( المسألة الرابعة ) : إذا تيقن الطهارة ثم شك في الحدث لم يلزمه الوضوء لكن يستحب له ، فلو توضأ احتياطا ثم بان أنه كان محدثا فهل يجزيه ذلك الوضوء ؟ فيه وجهان مشهوران عند الخراسانيين ، أصحهما لا يجزيه ; لأنه توضأ مترددا في النية ، إذ ليس هو جازما بالحدث ، والتردد في النية مانع من الصحة في غير الضرورة ، وقولنا : في غير الضرورة احتراز ممن نسي صلاة من الخمس فإنه يصلي الخمس وهو متردد في النية ، ولكن يعفى عن تردده فإنه مضطر إلى ذلك . والوجه الثاني : يجزيه لأنها طهارة مأمور بها صادفت الحدث فرفعته ، والمختار الأول وبه قطع البغوي في باب ما ينقض الوضوء ، كما لو شك هل عليه فائتة - صلاة الظهر - أم لا فقضاها على الشك ثم بان أنها كانت عليه ، فإنه لا يجزيه قطعا ، صرح به المتولي بخلاف ما لو كان محدثا فشك هل توضأ أم لا ؟ فتوضأ شاكا ثم بان أنه كان محدثا فإنه يصح وضوءه بلا خلاف ; لأن الأصل بقاء الحدث والطهارة واقعة بسبب الحدث وقد صادفته قال البغوي في هذه الصورة : فلو توضأ ونوى إن كان محدثا فهو عن فرض طهارته وإلا فهو تجديد ، صح وضوءه عن الفرض ، حتى لو زال شكه وتيقن الحدث لا يجب إعادة الوضوء ، وبنى بعض [ ص: 375 ] الأصحاب هذين الوجهين على الوجهين في الوضوء لما يستحب له الطهارة فإن قيل : قولكم الأصح أنه لا يجزيه وتجب الإعادة بمنع وقوع الوضوء مستحبا ويلزم منه أنه لا يستحب إذ لا فائدة فيه بل يحدث ثم يتوضأ وجوبا ولا سبيل إلى القول بذلك - فالجواب ما أجاب به الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله قال : لا نقول بأنه لا يرتفع حدثه على تقدير تحقق الحدث ، وإنما نقول : لا يرتفع على تقدير انكشاف الحال ويكون وضوءه هذا رافعا للحدث إن كان موجودا في نفس الأمر ولم يظهر لنا للضرورة ، فإذا انكشف الحال زالت الضرورة فوجبت الإعادة بنية جازمة قال : وهذا كما لو نسي صلاة من خمس فإنه يصلي الخمس ويجزيه بنية لا يجزي مثلها حال الانكشاف .

                                      ( قلت ) : ولو نسي صلاة من الخمس فصلى الخمس ثم علم المنسية فلم أر فيه كلاما لأصحابنا ، ويحتمل أن يكون على الوجهين في هذه المسألة ، ويحتمل أن يقطع بأنه لا تجب الإعادة ; لأنا أوجبناها عليه وفعلها بنية الواجب ، ولا نوجبها ثانيا ، بخلاف مسألة الوضوء فإنه تبرع به فلا يسقط به الفرض ، وهذا الاحتمال أظهر . والله أعلم .



                                      ( المسألة الخامسة ) : إذا توضأ ثلاثا كما هو السنة فترك لمعة عن وجهه في الغسلة الأولى ناسيا فانغسلت في الثانية أو الثالثة وهو يقصد بها التنفل فهل يسقط الفرض في تلك اللمعة بهذا أم يجب إعادة غسلها فيه وجهان ، وكذا الجنب إذا ترك لمعة من بدنه في الغسلة الأولى ناسيا فانغسلت في الثانية ففيه الوجهان ، وكذا لو أغفل لمعة في وضوئه فانغسلت في تجديد الوضوء حيث يشرع التجديد ففي ارتفاع حدث اللمعة الوجهان وهما مشهوران . قال القاضي أبو الطيب في كتابه شرح الفروع : الصحيح أنه لا يرتفع حدث اللمعة في المسألتين ، وقال جمهور الخراسانيين : الأصح ارتفاع الحدث بالغسلة الثانية والثالثة . والأصح : عدم الارتفاع في مسألة التجديد لأن الغسلات الثلاث طهارة واحدة ، ومقتضى نيته الأولى أن تحصل الغسلة الثانية بعد كمال الأولى ، فما لم تتم الأولى لا يقع عن الثانية ، وتوهمه الغسل عن الثانية لا يمنع الوقوع عن الأولى كما لو ترك سجدة من الركعة [ ص: 376 ] الأولى وسجد في الثانية فإنه يتم بها الأولى وإن كان يتوهم خلاف ذلك . وأما التجديد فطهارة مستقلة مفردة بنية لم توجه إلى رفع الحدث أصلا . هذا كله إذا غسل اللمعة معتقدا بها التنفل بالثانية أو الثالثة في الوضوء أو الغسل ، فأما لو نسي اللمعة في وضوئه أو غسله ثم نسي أنه توضأ أو اغتسل فأعاد الوضوء بنية رفع الحدث والغسل بنية رفع الجنابة فانغسلت تلك اللمعة ثم تذكر الحال فإنه يسقط عنه الفرض ويرتفع حدثه وجنابته بلا خلاف ; لأن الفرض باق في اللمعة وقد نوى الفرض في الطهارة الثانية ، وممن صرح بهذا مع ظهوره جماعات منهم ابن الحداد في فروعه والقاضي أبو الطيب في شرح الفروع والفوراني والبغوي والمتولي والروياني وآخرون ونقل الفوراني الاتفاق عليه . والله أعلم .



                                      ( المسألة السادسة ) : نية الصبي المميز صحيحة وطهارته كاملة ، فلو تطهر ثم بلغ على تلك الطهارة جاز أن يصلي بها ، وكذا لو أولج ذكره في فرج أو لاط به إنسان واغتسل الصبي ثم بلغ لا يلزمه إعادة الغسل بل وقع غسله صحيحا مجزيا ، والصبية إذا جومعت كالصبي فلو لم يغتسلا حتى بلغا لزمهما الغسل بلا خلاف ، وحكى المتولي عن المزني أنه ذكر في المنثور أن طهارة الصبي ناقصة فيلزمه الإعادة إذا بلغ ، وهذا غريب ضعيف جدا والصحيح المشهور ما قدمته وصرح صاحب الحاوي بأنه يجزيه طهارته في الصبا ويصلي بها بعد البلوغ بلا خلاف في مذهب الشافعي . وأما إذا تيمم ثم بلغ فقطع الماوردي بأنه يصلي به النفل ولا يصلي به الفرض ، وقال صاحب العدة والبغوي : لا يبطل تيممه على أصح الوجهين فيصلي به الفرض والنفل ; لأنه لو صلى بذلك التيمم صلاة الوقت ثم بلغ والوقت باق أجزأته ، ذكره البغوي في باب الغسل ، وقال الروياني في باب التيمم : قال أصحابنا العراقيون : لا يصلي به الفرض ، وقال القفال : فيه وجهان . والله أعلم .



                                      ( السابعة ) : هل يشترط الإضافة إلى الله تعالى في نية الوضوء وسائر العبادات ؟ فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين والغزالي ومن تابعهما أصحهما لا يشترط ; لأن عبادة المسلم لا تكون إلا لله تعالى ، ومقتضى كلام الجمهور القطع بأنها لا تشترط . والله أعلم .



                                      [ ص: 377 ] الثامنة ) : هل تجب النية على غاسل الميت وتشترط في صحة غسله ؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف وأكثر الأصحاب في كتاب الجنائز وذكرهما جماعة هنا ، واختلف في الأصح منهما وسنوضحه في الجنائز إن شاء الله تعالى



                                      ( التاسعة ) : إذا كان على عضو من أعضاء المتوضئ أو المغتسل نجاسة حكمية فغسله مرة واحدة بنية رفع الحدث وإزالة النجاسة أو بنية رفع الحدث وحده حكم بطهارته عن النجاسة بلا خلاف . وهل يطهر عن الحدث والجنابة ؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي والشاشي والروياني وغيرهم أصحهما : يطهر ، وبه قطع القاضي أبو الطيب والشيخ نصر المقدسي في كتابه الانتخاب وابن الصباغ ; لأن مقتضى الطهارتين واحد فكفاها غسلة واحدة كما لو كان عليها غسل جنابة وحيض .

                                      ( والثاني ) : لا يطهر وبه قطع القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي وصححه الشاشي في كتابه المعتمد والرافعي ، والمختار الأول ، ذكر القاضي أبو الطيب والقاضي حسين والبغوي والشيخ نصر هذه المسألة في هذا الباب ، وذكرها صاحب الشامل في باب الاجتهاد في الأواني ، والمتولي في المياه ، والماوردي والشاشي والروياني في باب الغسل ، ولو كان على يده عجين أو طين ونحوهما فغسلهما بنية رفع الحدث لا يجزيه ، وإذا جرى الماء إلى موضع آخر لا يحسب عن الطهارة لأنه مستعمل ، ذكره القاضي حسين والله أعلم .



                                      ( العاشرة ) : إذا نوى رفع حدث البول ولم يكن حدثه البول بل النوم مثلا فإن كان غالطا بأن ظن حدثه البول صح وضوءه بلا خلاف . وقد أشار المزني رحمه الله إلى نقل الإجماع على هذا فإنه قال في باب التيمم من مختصره : ولا نعلم أحدا منع صحة وضوء هذا الغالط . وذكر إمام الحرمين هنا في باب النية أن المزني نقل الإجماع على ذلك ، قال الإمام : وفيه عندي أدنى نظر ، وإن كان معتمدا عالما بأن حدثه النوم فنوى البول أو غيره فوجهان أحدهما : يصح ويلغى تعيينه الحدث ، وأصحهما لا يصح لأنه متلاعب نوى ما ليس عليه وترك ما هو عليه مع علمه ، بخلاف الغالط فإنه يعتقد أن نيته رافعة لحدثه مبيحة للصلاة وكأنه نوى استباحة الصلاة .



                                      [ ص: 378 ] فرع ) في وقوع الغلط في النية أذكر فيه إن شاء الله تعالى جملة مختصرة وهي مقررة بأدلتها في مواضعها ، والمقصود جمعها في موضع ، وهذا أليق المواضع بها . قال أصحابنا : إذا غلط في نية الوضوء فنوى رفع حدث النوم وكان حدثه غيره صح بالاتفاق ، وإن تعمد لم يصح على الأصح كما أوضحناه ، وكذا حكم الجنب ينوي رفع جنابة الجماع وجنابته باحتلام وعكسه ، والمرأة تنوي الجنابة وحدثها الحيض وعكسه فحكمه ما سبق .



                                      ولو نوى المتيمم استباحة الصلاة بسبب الحدث الأصغر وكان جنبا أو الجنابة فكان محدثا صح بالاتفاق إذا كان غالطا ، وسلم إمام الحرمين أن احتماله السابق لا يجيء هنا ، قال أصحابنا : ولو غلط في الصلاة والصوم فنوى غير الذي عليه لم يجزه إلا إذا نوى قضاء اليوم الأول من رمضان مثلا وكان عليه الثاني ففي إجزائه وجهان مشهوران ، وقد ذكرهما المصنف في آخر كتاب الصيام لكنه ذكرهما احتمالين وهما وجهان للأصحاب ، ولو نوى ليلة الثلاثاء صوم الغد وهو يعتقده يوم الاثنين أو نوى رمضان السنة التي هو فيها وهو يعتقدها سنة أربع فكانت سنة ثلاث صح صومه بلا خلاف لتعيينه الوقت ، بخلاف ما لو نوى صوم الاثنين ليلة الثلاثاء ولم ينو الغد أو نوى رمضان سنة ثلاث في سنة أربع فإنه لا يصح لعدم التعيين



                                      ولو نوى في الصلاة قضاء ظهر يوم الاثنين وكان عليه ظهر الثلاثاء لم يجزه صرح به البغوي ولو كان يؤدي الظهر في وقتها معتقدا أنه يوم الاثنين فكان الثلاثاء صح ظهره ، صرح به البغوي . ولو غلط في الأذان وظن أنه يؤذن للظهر وكانت العصر فلا أعلم فيه نقلا وينبغي أن يصح ، لأن المقصود الإعلام ممن هو من أهله وقد حصل به ، ولو غلط في عدد الركعات فنوى الظهر ثلاث ركعات أو خمسا قال أصحابنا : لا يصح ظهره ، ولو صلى في الغيم بنية الأداء ظانا أن الوقت باق ، أو الأسير صام بالاجتهاد ونوى رمضان فبان بعد خروج الوقت أجزأهما ، نص عليه الشافعي والأصحاب .



                                      ولو عين الإمام من يصلي خلفه فنوى الصلاة بزيد فكان الذي خلفه عمرا صحت صلاتهما ، ولو نوى المأموم الصلاة خلف زيد فكان عمرا أو نوى الصلاة على الميت زيد فكان عمرا أو على امرأة فكان رجلا أو عكسه لم [ ص: 379 ] تصح صلاته ، ولو قال : خلف هذا زيد أو على هذا الميت زيد فكان عمرا ففي صحة الصلاة وجهان ، ومثله في البيع لو قال بعتك هذا الفرس فكان بغلا أو عكسه ففي صحته وجهان الأصح في مسألة الصلاة الصحة تغليبا للإشارة ، وفي مسألة البيع البطلان تغليبا للعبارة غرض المالية ، ومثله في النكاح لو قال : زوجتك هذه العربية فكانت عجمية أو عكسه أو هذه العجوز فكانت شابة أو عكسه أو البيضاء فكانت سوداء أو عكسه ، وكذا المخالفة في جميع وجوه النسب والصفات بالعلو والنزول ، ففي صحة النكاح قولان مشهوران الأصح الصحة .



                                      ولو أخرج دراهم بنية زكاة ماله الغائب فكان تالفا لا يجزيه عن الحاضر ، ولو أطلق نية الزكاة أجزأه عن الحاضر ، ومثله في الكفارة . ولو نوى كفارة الظهار فكان عليه كفارة قتل لم يجزئه ، ولو نوى الكفارة مطلقا أجزأه . فهذه أمثلة يستضاء بها لنظائرها وستأتي مبسوطة مع غيرها في مظانها إن شاء الله تعالى والله أعلم .



                                      ( المسألة الحادية عشرة ) : إذا نوى قطع الطهارة بعد الفراغ منها فالمذهب الصحيح المشهور أنها لا تبطل كما لو نوى قطع الصلاة بعد السلام منها فإنها لا تبطل بالإجماع . وممن جزم بهذا ابن الصباغ والجرجاني في التحرير والروياني وغيرهم ، وفيه وجه حكاه في البيان عن الصيدلاني أن طهارته تبطل لأن حكمها باق ; بدليل أنه يصلي بها ، وإن نوى قطع الطهارة في أثنائها فوجهان مشهوران حكاهما صاحبا الشامل والبحر وآخرون : أحدهما : تبطل كما لو قطع الصلاة في أثنائها . وأصحهما : لا يبطل ما مضى وبه قطع الفوراني والجرجاني كما لو عزبت نيته ونوى التبرد في أثناء طهارته ، فإن النية تنقطع ولا يبطل ما مضى بخلاف الصلاة فإنها متى انقطعت نيتها بطلت كلها ، فعلى هذا إذا أراد تمام الطهارة وجب تجديد النية بلا خلاف ، صرح به الفوراني والروياني وصاحب البيان وآخرون ، فإن لم يتطاول الفصل بنى ، ويجيء فيه الوجه السابق في تفريق النية ، وإن طال فعلى قولي تفريق الوضوء .

                                      أما إذا قطع نية الحج ونوى الخروج منه في أثنائه فلا ينقطع ، ولا يخرج [ ص: 380 ] بلا خلاف . ولو نوى في أثناء الصلاة الخروج منها بطلت قطعا ، ولو نوى في أثناء الصوم والاعتكاف الخروج منهما ففي بطلانهما وجهان ، وسنوضح كل ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى ، والله أعلم



                                      ( فرع ) في مسائل غريبة ذكرها الروياني في البحر . قال : لو نوى أن يصلي بوضوئه صلاة لا يدركها به بأن نوى بوضوئه في رجب صلاة العيد قال : قال والدي : قياس المذهب صحة وضوئه ويصلي به كل الصلوات لأنه نوى ما لا يباح إلا بوضوء ، قال : قال جدي : ولو أجنبت بنت تسع سنين فنوت بغسلها رفع حدث الحيض صح على أصح الوجهين ، وهذا الذي حكاه محمول على ما إذا غلطت فإن نوت متعمدة فالصحيح أنه لا يصح لو كانت ممن حاضت فهذه أولى . وذكر الروياني في آخر باب التحري في الأواني قال : لو أمر غيره بصب الماء عليه في وضوئه وغسله فصب البعض ونوى المتطهر ، ثم صب الباقي في حال كره المتطهر فيها الصب لبرودة الماء أو غيره ، إلا أنه لم يأمره ولم ينهه فينبغي أن تصح الطهارة ، ولو نوى الطهارة وغسل البعض ثم صب عليه غيره بغير إذنه وهو غافل لا يعلم به ونية الطهارة عازبة عنه لم يصح ; لأن النية تناولت فعله لا فعل غيره .

                                      ( قلت ) في هذا نظر ، قال : ولو أمر بصب الماء عليه في كل وضوئه ثم نسي الأمر به فصبه عليه بعد ما غسل بعض أعضائه بنفسه صح ولا يضره النسيان ، ولو نام قاعدا في أثناء وضوئه ثم انتبه في مدة يسيرة ففي وجوب تجديد النية وجهان كما لو فرق تفريقا كثيرا . ولو نوى بوضوئه قراءة القرآن إن كانت كافية فإن لم تكن كافية فالصلاة وقلنا لا تكفي نية القراءة فيحتمل أن يصح ، كما لو نوى زكاة ماله الغائب إن كان باقيا ، وإلا فعن الحاضر فيجزيه إذا كان باقيا . ولو نوى [ ص: 381 ] بوضوئه الصلاة في مكان نجس ينبغي أن لا يصح . ولو نوى نية صحيحة وغسل بعض أعضائه ثم بطل الوضوء في أثنائه بحدث أو غيره هل له ثواب المفعول منه ؟ يحتمل أن يكون له ثوابه كالصلاة إذا بطلت في أثنائها . ويحتمل أن يقال : إن بطل بغير اختياره فله ثوابه وإلا فلا ، ومن أصحابنا من قال : لا ثواب له بحال لأنه يراد لغيره بخلاف الصلاة ، والله أعلم بالصواب ، وله الحمد والنعمة وبه التوفيق والعصمة ، والحمد لله رب العالمين .




                                      الخدمات العلمية