الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 401 ] القول في تأويل قوله تعالى ( قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين )

يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم الأوثان والأصنام : من يرزقكم من السماوات والأرض بإنزاله الغيث عليكم منها حياة لحروثكم ، وصلاحا لمعايشكم ، وتسخيره الشمس والقمر والنجوم لمنافعكم ، ومنافع أقواتكم ، والأرض بإخراجه منها أقواتكم وأقوات أنعامكم ، وترك الخبر عن جواب القوم استغناء بدلالة الكلام عليه ، ثم ذكره ، وهو : فإن قالوا : لا ندري ، فقل : الذي يرزقكم ذلك الله وإنا أو إياكم أيها القوم لعلى هدى أو في ضلال مبين : يقول : قل لهم : إنا لعلى هدى أو في ضلال ، أو إنكم على ضلال أو هدى .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) قال : قد قال ذلك أصحاب محمد للمشركين ، والله ما أنا وأنتم على أمر واحد ، إن أحد الفريقين لمهتد .

وقد قال قوم : معنى ذلك : وإنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين .

ذكر من قال ذلك :

حدثني إسحاق بن إبراهيم الشهيدي قال : ثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن عكرمة ، وزياد في قوله ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) قال : إنا لعلى هدى ، وإنكم لفي ضلال مبين .

[ ص: 402 ] واختلف أهل العربية في وجه دخول " أو " في هذا الموضع فقال بعض نحويي البصرة : ليس ذلك لأنه شك ولكن هذا في كلام العرب على أنه هو المهتدي قال : وقد يقول الرجل لعبده : أحدنا ضارب صاحبه . ولا يكون فيه إشكال على السامع أن المولى هو الضارب .

وقال آخر منهم : معنى ذلك : إنا لعلى هدى ، وإنكم إياكم لفي ضلال مبين ، لأن العرب تضع " أو " في موضع واو الموالاة ، قال جرير :


أثعلبة الفوارس أو رياحا عدلت بهم طهية والخشابا



قال : يعني : ثعلبة ورياحا قال : وقد تكلم بهذا من لا يشك في دينه ، وقد علموا أنهم على هدى ، وأولئك في ضلال ، فيقال : هذا وإن كان كلاما واحدا على جهة الاستهزاء ، فقال : هذا لهم ، وقال :


فإن يك حبهم رشدا أصبه     ولست بمخطئ إن كان غيا



[ ص: 403 ] وقال بعض نحويي الكوفة : معنى " أو " ومعنى الواو في هذا الموضع في المعنى ، غير أن القرينة على غير ذلك ، لا تكون " أو " بمنزلة الواو ولكنها تكون في الأمر المفوض ، كما تقول : إن شئت فخذ درهما أو اثنين ، فله أن يأخذ اثنين أو واحدا ، وليس له أن يأخذ ثلاثة . قال : وهو في قول من لا يبصر العربية ، ويجعل " أو " بمنزلة الواو ، ويجوز له أن يأخذ ثلاثة ، لأنه في قولهم بمنزلة قولك : خذ درهما أو اثنين قال : والمعنى في ( إنا أو إياكم ) إنا لضالون أو مهتدون ، وإنكم أيضا لضالون وهو يعلم أن رسوله هو المهتدي وأن غيره الضال . قال : وأنت تقول في الكلام للرجل يكذبك : والله إن أحدنا لكاذب ، وأنت تعنيه ، وكذبته تكذيبا غير مكشوف ، وهو في القرآن وكلام العرب كثير ، أن يوجه الكلام إلى أحسن مذاهبه إذا عرف ، كقول القائل لمن قال : والله لقد قدم فلان ، وهو كاذب ، فيقول : قل : إن شاء الله ، أو قل : فيما أظن ، فيكذبه بأحسن تصريح التكذيب . قال : ومن كلام العرب أن يقولوا : قاتله الله ، ثم يستقبح فيقولون : قاتله الله ، وكاتعه الله . قال : ومن ذلك : ويحك وويسك ، إنما هي في معنى ويلك ، إلا أنها دونها . والصواب من القول في ذلك عندي أن ذلك أمر من الله لنبيه بتكذيب من أمره بخطابه بهذا القول بأجمل التكذيب ، كما يقول الرجل لصاحب يخاطبه ، [ ص: 404 ] وهو يريد تكذيبه في خبر له : أحدنا كاذب ، وقائل ذلك يعني صاحبه لا نفسه ، فلهذا المعنى صير الكلام ب " أو " .

التالي السابق


الخدمات العلمية