الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة

في معنى قوله "من قتل دون ماله فهو شهيد"، وهل يجب على الشخص أن يبذل ثلث ماله قبل القتال -كما هو متعارف بين الناس- أم يجوز ذلك؟ وهل الواجب عليه الدفع عن نفسه وأهله وماله دون البذل؟

الجواب

قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد".

واتفق العلماء على أن قطاع الطريق إذا تعرضوا لأبناء السبيل يريدون أموالهم فإن لهم أن يقاتلوهم دفعا عن أموالهم، إذا لم يندفعوا إلا بالقتال، ولا يجب عليهم أن يبذلوا لهم من المال لا قليلا ولا كثيرا، لا الثلث ولا غير الثلث، لكن إن أحبوا هم أن [ ص: 230 ] يبذلوا ذلك ويتركوا القتال فلهم ذلك، وليس بواجب عليهم، إلا أن يكونوا عاجزين عن القتال، فحينئذ يصالحونهم بما أمكن، ولا يقاتلون قتالا تذهب فيه أنفسهم وأموالهم.

وأما الوجوب فلا يجب عليهم الدفع عن أموالهم، بل لهم أن يقاتلوا عنها ولهم أن يبذلوها، لأن إعطاء المال لهم جائز، وإمساكه عنهم جائز، والعبد يفعل أصلح الأمرين عنده.

وأما الدفع عن الحرمة مثل أن يريد الظالم أن يفجر بامرأة الإنسان أو ذات محرمه أو بنفسه أو بولده ونحو ذلك، فهذا يجب عليه الدفع، لأن التمكين من فعل الفاحشة لا يجوز، كما لا يجوز بذل المال، فيجب عليه أن يدفع ذلك بحسب إمكانه، وإذا لم يندفع إلا بالقتال وهو قادر عليه قاتل.

وأما دفعه عن دمه فهو جائز أيضا، لكن في وجوبه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد:

أحدهما: لا يجب، لأن ابن آدم المظلوم لما أراد أخوه قتله لم يدفع عن نفسه، وقال: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين .

وكذلك أمير المؤمنين عثمان لما طلب الخوارج قتله لم يدفع [ ص: 231 ] عن نفسه، وأمر الذين جاءوا ليقاتلوا عنه -كغلمانه وأقاربه والحسن بن علي وعبد الله بن الزبير وغيرهم- أن لا يقاتلوا، وكان ذلك من مناقبه رضي الله عنه.

والقول الثاني: يجب الدفع عن نفسه، لأن قتله بغير حق محرم، فلا يجوز له التمكين من محرم.

وهذا إذا لم تكن فتنة، وأما إذا كانت فتنة بين المسلمين، مثل أن يقتتل رجلان أو طائفتان على ملك أو رئاسة أو على أهواء بينهم، كأهواء القبائل والموالي الذين ينتسب كل طائفة إلى رئيس أعتقهم، فيقاتلون على رئاسة سيدهم، وأهواء أهل المدائن الذين يتعصب كل طائفة لأهل مدينتهم، وأهواء أهل المذاهب والطرائق كالفقهاء الذين يتعصب كل قوم لحزبهم ويقتتلون، كما كان يجري في بلاد الأعاجم، ونحو ذلك، فهذا قتال الفتنة ينهى عنه هؤلاء وهؤلاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه".

وفي الصحيح أنه قال: "من قتل تحت راية عمية يغضب لعصبة ويدعو لعصبة فليس منا - أو قال: - هو في النار". وقال صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من [ ص: 232 ] الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خير من المرجع" .

والأحاديث الصحيحة كثيرة في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال في الفتنة، بل عند التداعي بسعارها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه هن أبيه ولا تكنوا"، يعني: إذا قال الداعي: يا لفلان! أو يا للطائفة الفلانية! فقولوا له: اعضض ذكر أبيك.

وفي الصحيحين عنه أن المسلمين كانوا معه في سفر، فاقتتل -يعني- رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة".

وقال تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون [ ص: 233 ] ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه . قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والضلالة.

وقد قال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب". وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".

فالله قد جعل المؤمنين إخوة مع الاقتتال، وأمر بالعدل بينهم، فقال تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله [ ص: 234 ] . فجعلنا إخوة مع الاقتتال والبغي، وأمر بالعدل بينهم.

فيجب على كل أحد أن يعظم أهل التقوى والحق ويكون معهم، سواء كانوا من طائفته أو لم يكونوا، ويقصد أن يكون الدين لله لا لمخلوق، فإذا فضل هؤلاء على هؤلاء لم يكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، بل يسعى بينهم بالعدل والإصلاح.

فإذا طلب قتل الرجل في هذه الحال وهو لا يريد أن يقاتل أحدا، فهل له أن يدفع عن نفسه في هذه الحال؟ على قولين للعلماء هما روايتان عن أحمد:

إحداهما: لا يدفع عن نفسه وإن قتل، حتى لا يكون مقاتلا في الفتنة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للسائل لما سأله عن ذلك: "دعه حتى يبوء بإثمه وإثمك".

والثاني: يجوز؛ لعموم الحديث، والأحاديث الخاصة تبين أنه نهى عن القتال في الفتنة وإن قتل مظلوما، ولهذا لم يقاتل عثمان رضي الله عنه، لأنه رأى أن ذلك يفضي إلى الفتنة. والله أعلم. [ ص: 235 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية