الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال الرازي: الوجه الرابع: "كلما تحرك زحل دورة [ ص: 352 ] تحركت الشمس ثلاثين فعدد دورات زحل أقل من عدد دورات الشمس، والأقل من غير متناه، والزائد على المتناهي بالمتناهي متناه، فعددهما متناه".

قال الأرموي: "ولقائل أن يقول: تضعيف الواحد إلى غير النهاية أقل من تضعيف الاثنين كذلك مع كونهما غير متناهيين"

قلت: هذا الذي ذكره الأرموي معارضة ليس فيه منع شيء من مقدمات الدليل، ولا حل له، ثم قد يقول المستدل: الفرق بين مراتب الأعداد وأعداد الدورات من وجهين.

أحدهما: أن مراتب الأعداد المجردة لا وجود لها في الخارج، وإنما يقدرها الذهن تقديرا، كما يقدر الأشكال المجردة يقدر شكلا مستديرا وشكلا أكبر منه وشكلا أكبر من الآخر وهلم جرا، وتلك الأشكال التي يقدرها الذهن لا وجود لها في الخارج، وكذلك الأعداد المجردة لا وجود لها في الخارج، فالكم المتصل أو المنفصل إذا أخذ مجردا عن الموصوف به لم يكن إلا في الذهن، وكذلك الجسم التعليمي - وهو أن يقدر طول وعرض وعمق مجرد عن الموصوف به - وإذا كان كذلك لم يلزم من إمكان تقدير ذلك في الذهن إمكان وجوده في الخارج ؛ فإن الذهن تقدر فيه الممتنعات، كاجتماع النقيضين والضدين، فيقدر فيه كون الشيء موجودا معدوما، وكون الشيء متحركا ساكنا، ويقدر فيه [ ص: 353 ] أن كون الشيء لا موجودا ولا معدوما، ولا واجبا ولا ممكنا ولا ممتنعا، إلا غير ذلك من التقديرات الذهنية التي لا تستلزم إمكان ذلك في الخارج، ولهذا يمكن تقدير خط لا يتناهى وسطح لا يتناهى، وتقدير أشكال بعضها أكبر من بعض بلا نهاية وأبعاد لا نهاية لها، ولا يلزم من إمكان تقدير ما لا نهاية له في الذهن إمكان ذلك في الخارج، والمنازعون يسلمون امتناع أجسام لا يتناهى قدرها وأبعاد لا تتناهى وعلل ومعلولات لا تتناهى، مع إمكان تقدير ذلك في الذهن.

فإذا قيل لهم: كذلك تقدير أعداد لا تتناهى، أو تقدير مراتب أعداد لا تتناهى بعضها أفضل من بعض، إذا قدر في الذهن لم يدل ذلك على إمكان وجوده في الخارج - بطلت معارضتهم، وكان من عارض تقدير الأعداد التي لا تتناهى بتقدير الأشكال التي لا تتناهى وتقدير التفاضل في هذا كالتفاضل في هذا: أولى ممن عارض تفاضل الدورات بتفاضل مراتب الأعداد، فإنه إذا قيل: تضعيف الواحد إلى غير نهاية أقل من تضعيف الاثنين. قيل: وإذا فرض خط عرضه بقدر الكف لا يتناهى طولا وخط عرضه بقدر الذراع لا يتناهى، فالذي بقدر الكف أقل، وإذا فرض أجسام مستديرة كل منها بقدر رأس الإنسان لا تتناهى، وأخرى كل منها بقدر الفلك لا [ ص: 354 ] تتناهى، كانت مقادير تلك أصغر، مع أن الجميع لا يتناهى، كان معلوما أن هذه المعارضة أعدل وأولى بالقبول من تلك المعارضة.

الوجه الثاني: إن كان تضعيف الأعداد ومراتبها وسائر المقادير إلى غير نهاية كان هذا التضعيف إنما هو في الذهن، فكل ما يتصوره الذهن من ذلك ويقدره فهو يتناهى، والذهن لا يزال يضعف حتى يعجز، وهكذا إذا نطق بأسماء الأعداد أو بألفاظ فلا يزال ينطق حتى يعجز، وإن قدر أنه لا يعجز بل لا يزال الذهن يقدر واللسان ينطق فإن جميع ذلك داخل في الوجود الذهني واللفظي والجناني واللساني، وكل ما يدخل من ذلك في الوجود فهو متناه وله مبدأ محدود، فله أول ابتدأ منه، وهو من ذهن الإنسان ولفظه، وكل ما يوجد منه متعاقبا فإنه متناه، لكن هذا يدل على جواز ما لا نهاية له في المستقبل، وأن الشيء قد يكون له بداية ولا يكون له نهاية، فإن ما يخطر بالأذهان وينطق به اللسان له بداية، ويمكن وجود ما لا يتناهى منه، ومن هذا الباب أنفاس أهل الجنة وألفاظهم وحركاتهم، فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، ومن هذا الباب تسبيح الملائكة دائما.

فهذا المذكور من تضعيف الأعداد ذهنا ولفظا يدل على وجود ما لا يتناهى في المستقبل إذا كان له بداية محدودة، وأما التفاضل فيه - سواء أريد به تضعيف الذهن، أو اللسان، أو جميعهما - فمعلوم أنه إذا قيل: ضعف الواحد وضعف ضعفه وضعف ضعف ضعفه وهلم جرا، [ ص: 355 ] وقيل: ضعف الاثنين وضعف ضعفهما وضعف ضعف الضعف وهلم جرا، فإن أريد بكون تضعيف الواحد أقل من تضعيف الاثنين، أن ما وجد من نطق اللسان بالتضعيف أو ما يخطر بالقلب من التضعيف أقل، فهذا ممنوع إذا قدر التساوي في المبدأ والحركة، وإن قدر التفاضل فأكثرهما أسبقهما مبدأ وأقواهما حركة، وحينئذ فقد يكون تضعيف الواحد هو الأكثر.

وإن أريد بذلك أن مسمى أحد اللفظين أكثر مما في كل مرتبة من مراتب التضعيف، فإذا ضعف الواحد خمس مرات كان اثنين وثلاثين، وإذا ضعف الاثنان خمس مرات كان أربعا وستين مرة، فهذه الأربع والستون ليست معدودا موجودا في الخارج ولا في الذهن حتى يقال: وجد التفاضل فيما لا يتناهى، وإنما نطق بلفظ أعداد متناهية، والمعدودات ليست موجودة لا في الذهن ولا في الخارج، فلو قدر وجود ألفاظ الأعداد من هذه المرتبة ومن هذه المرتبة في الذهن واللسان لم يلزم إذا قدر أنهما غير متناهيين أن يكونا متفاضلين مع استوائهما في المبدأ والحركة.

وإن أراد أن مسمى هذا لو وجد لكان أكبر من مسمى هذا. [ ص: 356 ]

فيقال: نعم، ولكن لم قلت: إن وجود ذلك المسمى ممكن؟ وهذا كما لو قال القائل: "ما لا يتناهى أقدره في ذهني وأتكلم بلفظه" لم يكن في ذلك ما يقتضي أنه يمكن وجوده في الخارج، كما يقدر ذهنا ولسانا ما لا يتناهى من الأجسام والأبعاد والأشكال، فهذا هذا، فهذا مما يجيب به المستدل عن المعارضة بمراتب الأعداد.

وهذا الفرق - وإن كنا قد أوردناه - فقد ذكره غير واحد من النظار المفرقين بين العدد والحركات من متكلمي المسلمين وغيرهم، وذكر هؤلاء هذا الفرق المعروف عند من يوافق المستدل على هذا النقض هو أن تضعيف العدد ليس أمرا موجودا، بل مقدرا، بخلاف ما وجد من الحركات.

وهكذا فرق من فرق بين الماضي والمستقبل، بأن الماضي قد وجد، بخلاف المستقبل، والممتنع وجود ما لا يتناهى، لا تقدير ما لا يتناهى.

ومن يوافق المعترض يقول: الماضي أيضا قد عدم، فليست أفراده موجودة معا والمحذور وجود ما لا يتناهى فيما كان مجتمعا، بل مجتمعا منتظما بعضه ببعض، بحيث يكون له ترتيب طبيعي أو وضعي.

التالي السابق


الخدمات العلمية