الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقهم السيئات أي العقوبات على ما روي عن قتادة ، وإطلاق السيئة على العقوبة لأنها سيئة في نفسها ، وجوز أن يراد بها المعنى المشهور وهو المعاصي والكلام على تقدير مضاف أي وقهم جزاء السيئات أو تجوز بالسبب عن المسبب ، وأيا ما كان فلا يتكرر هذا مع وقهم عذاب الجحيم بل هو تعميم بعد تخصيص لشموله العقوبة الدنيوية والأخروية مطلقا أو الدعاء الأول للمتبوعين وهذا للتابعين ، وجوز أن يراد بالسيئات المعنى المشهور بدون تقدير مضاف ولا تجوز أي المعاصي أي وقهم المعاصي في الدنيا ووقايتهم منها حفظهم عن ارتكابها وهو دعاء بالحفظ عن سبب العذاب بعد الدعاء بالحفظ عن المسبب وهو العذاب ، وتعقب بأن الأنسب على هذا تقديم هذا الدعاء على ذاك ومن تق السيئات يومئذ أي يوم المؤاخذة فقد رحمته ويقال على الوجه الأخير ومن تق السيئات يوم العمل أي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة وأيد هذا الوجه بأن المتبادر من يومئذ الدنيا لأن ( إذ ) تدل على المضي ، وفيه منع ظاهر وذلك إشارة إلى الرحمة المفهومة من رحمته أو إلى الوقاية المفهومة من فعلها أو إلى مجموعهما ، وأمر التذكير على الاحتمالين الأولين وكذا أمر الإفراد على الاحتمال الأخير ظاهر هو الفوز أي الظفر العظيم الذي لا مطمع وراءه لطامع ، هذا وإلى كون المراد بالذين تابوا الذين تابوا من الذنوب مطلقا ذهب الزمخشري ، وقال في السيئات على تقدير حذف المضاف هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها ، وذكر أن الوقاية منها التكفير أو قبول التوبة وأن هؤلاء المستغفر لهم تائبون صالحون مثل الملائكة في الطهارة وأن الاستغفار لهم بمنزلة الشفاعة وفائدته زيادة الكرامة والثواب فلا يضر كونهم موعودين المغفرة والله تعالى لا يخلف الميعاد ، وتعقب بأنه لا فائدة في ذكر الرحمة والمبالغة فيها إذا كان المغفور له مثل الملائكة عليهم السلام في الطهارة وأي حاجة إلى الاستغفار فضلا عن المبالغة ، وأن ما قاله في السيئات لا يجوز فإن إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة واجب في مذهبه وما كان فعله واجبا كان طلبه بالدعاء عبثا قبيحا عند المعتزلة ، وكذا إسقاط عقوبة الصغيرة فلا يحسن طلبه بالدعاء ولا يجوز أن يكون ذلك لزيادة منفعة لأن ذلك لا يسمى مغفرة ، حكى هذا الطيبي عن الإمام ثم قال : فحينئذ يجب القول بأن المراد بالتوبة التوبة عن الشرك كما قال الواحدي فاغفر للذين تابوا عن الشرك واتبعوا سبيلك أي دينك الإسلام ، فإن قلت : لو لم يكن التوبة من المعاصي مرادا لكان يكفي أن يقولوا : فاغفر للذين آمنوا ليطابق السابق ، قلت : والله تعالى أعلم هو قريب من وضع المظهر موضع المضمر من غير اللفظ السابق وبيانه أن قوله تعالى : ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا الآية جاء مفصولا عن قوله تعالى : ويستغفرون للذين آمنوا فالآية بيان لكيفية الاستغفار لا لحال المستغفر لهم ، ووصفهم المميز يعرف بالذوق ، وأما فائدة العدول عن المضمر وأنه لم يقل : فاغفر لهم بل قيل : [ ص: 49 ] للذين تابوا فهي أن الملائكة كما عللوا الغفران في حق مفيض الخيرات جل شأنه بالعلم الشامل والرحمة الواسعة عللوا قابل الفيض أيضا بالتوبة عن الشرك واتباع سبيل الإسلام ، فإن قلت : هذه التوبة إنما تصح في حق من سبق شركه على إسلامه دون من ولد مسلما ودام عليه ، قلت : الآية نازلة في زمن الصحابة وجلهم انتقلوا من الشرك إلى الإسلام ولو قيل : فاغفر لمن لم يشرك لخرجوا فغلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم على سنن جميع الأحكام . انتهى . ولعمري إن للبحث فيه مجالا أي مجال .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الكشف إنما اختار الزمخشري ما اختاره على ما قال الواحدي من أن التوبة عن الشرك لأن التوبة عند الإطلاق تنصرف إلى التوبة من الذنوب مطلقا على أن فيه تكرارا إذ ذاك لأن التائب عن الشرك هو المسلم ، وقد فسر متبع السبيل في هذا القول به وإذا شرط حملة العرش ومن حوله عليهم السلام صلاح التابع وهو الذرية مع ما ورد من قوله تعالى : بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم [الطور : 21] فما بال المتبوع ، وأنت تعلم أن الصلاح من أخص أوصاف المؤمن وكفاك دعاء إبراهيم ويوسف عليهما السلام في الإلحاق بالصالحين شاهدا ، وأما أنهم غير محتاجين إلى الدعاء فجوابه أنه لا يجب أن يكون للحاجة ، ألا ترى إلى قولنا : اللهم صل على سيدنا محمد وما ورد فيه من الفضائل والمعلوم حصوله منه تعالى يحسن طلبه فإن الدعاء في نفسه عبادة ويوجب للداعي والمدعو له من الشرف ما لا يتقاعد عن حصول أصل الثواب ، ثم إن الوقاية عن السيئات إن كانت بمعنى التكفير وقع الكلام في أن السيئات المكفرة ما هي ولا خفاء أن النصوص دالة على تكفير التوبة للسيئات كلها وأن الصغائر مكفرات ما اجتنبت الكبائر فلا بد من تخصيصها به كما ذكر وإن كان معناها أن يعفى عنها ولا يؤاخذ بها كما هو قول الواحدي ومختار الإمام ومن ائتم به فينبغي أن ينظر أن الوقاية في أي المعنيين أظهر وأن قوله تعالى : ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وما يفيده من المبالغة على نحو من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك .

                                                                                                                                                                                                                                      وتعقيبه بقوله سبحانه : وذلك هو الفوز العظيم في شأن المقصرين أظهر أو شأن المكفرين ، ومن هذا التقرير قد لاح أن هذا الوجه ظاهر هذا السياق وأنه يوافق أصل الفريقين وليس فيه أنه سبحانه يعفو عن الكبائر بلا توبة أو لا يعفو فلا ينافي جوازه من أدلة أخرى إلى آخر ما قال وهو كلام حسن وإن كان في بعضه كحديث التكرار وكون الصلاح في الآية ما هو من أخص أوصاف المؤمن نوع مناقشة ، وقد يرجح كون المراد بالتوبة التوبة من الذنوب مطلقا دون التوبة عن الشرك فقط بأن المتبادر من وقهم عذاب الجحيم وق كل واحد منهم ذلك ، ومن المعلوم أنه لا بد من نفوذ الوعيد في طائفة من المؤمنين العاصين وتعذيبهم في النار فيكون الدعاء بحفظ كل من المؤمنين من العذاب محرما .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد نصوا على حرمة أن يقال : اللهم اغفر لجميع المؤمنين جميع ذنوبهم لذلك ، ولا يلزم ذلك على كون الدعاء للتائبين الصالحين ، وحمل الإضافة على العهد بأن يراد بعذاب الجحيم ما كان على سبيل الخلود لا يخفى حاله والاعتراض بلزوم الدعاء بمعلوم الحصول على كون المراد بالتوبة ذلك بخلاف ما إذا أريد بها التوبة عن الشرك فإنه لا يلزم ذلك إذ المعنى عليه فاغفر للذين تابوا عن الشرك ذنوبهم التي لم يتوبوا عنها وغفران تلك الذنوب غير معلوم الحصول قد علم جوابه مما في الكشف ، على أن في كون الغفران للتائب معلوم الحصول خلافا أشرنا إليه أول السورة . نعم هذا اللزوم ظاهر في قولهم : وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ونظير ذلك ما ورد في الدعاء [ ص: 50 ] إثر الأذان وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، وقد أجيب عن ذلك بغير ما أشير إليه وهو أن سبق الوعد لا يستدعي حصول الموعود بلا توسط دعاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وبالجملة لا بأس بحمل التوبة على التوبة من الذنوب مطلقا ولا يلزم من القول به القول بشيء من أصول المعتزلة فتأمل وأنصف ،

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية